عماد فوزي شُعيبي *تعقيباً على مقالَيْ الدكتور أسعد أبو خليل اللذين نُشرا في «الأخبار» في 17 و24 كانون الثاني 2009، جاءنا الردّ الآتي:
كثيراً ما مارسنا مع أسعد أبو خليل أسلوب التواطؤ من أجل القضايا الكبرى، فكنّا نسكت على هنّاته وتحليلاته وتجاوزاته على اعتبار أنه يفتح النار في الاتجاه المناسب. مع أنه كان يستخدم أسلوب التطهّر بتناول الموقف السوري كي لا يُتّهم ببمالأته لسوريا، وكأنه مُطالب بتقديم أوراق اعتماده كمستقل وموضوعيّ في الفضاء الكوني، لا على الأرض حيث لا يوجد موضوعي محض ولا يوجد مستقل محض. ولكن أسعد أبو خليل استمرأ القصة، ويبدو أنه لم يستفد من دروس السياسة التي تقول تقنياً بأنك إذا ما كررت ذريعتك أكدت عكسها، ولكأني بأسعد أبو خليل لم يستشعر كأستاذ جامعي بعد، أن العالم قد فُرز وأن لا مكان له في موقع وسطي مزعوم، يفتح فيه النار على الطرف المعادي للقضايا العربية والمتواطئ على الغرب، وأنه شاء أم أبى محسوب على الخط السوري الذي هو خطه أعلن ذلك أم تبرّأ.
أو لكأني بأسعد أبو خليل لم يعرف بعد أن لا تذاكي في وضع نفسه في موضع الناقد الذي يفتح النار على أصدقائه وحلفائه في سياق ناره على أعدائه، فهذه لعبة ممجوجة لم تعد قابلة للصرف. هذا الأسلوب النقدوي! المبالغ في نقديته، لم يعد ينتمي لا إلى نقدية ماركس المبتذلة في عُرف هردر ولا إلى اعتسافية نقّاقي العالم العربي، وهو يبدو بمثابة تمادٍ في الزفر التنفيثي المتأتي كما يقول التحليل النفسي عن تصعيد لا يرقى إلى مستوى التحويل الإبداعي. المهم في الأمر أن على أبي خليل أن يفهم أن الاصطفاف اليوم إلى جانب القضايا الكبرى ليس فيه امتهان للاستقلالية الافتراضية لدى أي من المثقفين. وأن الزمن لم يعد زمن فتح النار دونكيشوتيّاً في كل الاتجاهات. وأن العمق لا يكون بكسب الأعداء بالجملة، ولا بادعاء أكثر سذاجة بأن صاحبه يفهم أكثر من الآخرين، وخصوصا أن لا قضايا مباشرة لأبي خليل تتصل بالآنيات وبرفع معنويات الناس عن حق، وباختصارات يراها المتذاكي سذاجة على اعتبار احتقار ضمني من موقع النخبوية النرجسية الأوديبية لهؤلاء في معركة هي للكل.
ولأن التضامن المتواطئ مع أبي خليل قد ولّى منذ أن أصبح الفرز واجباً، فإن التواطؤ بهدف تصحيح تذاكيه المفرط يخدمه ويخدم القضية التي يتصدى لها بشجاعة أحياناً تصل إلى حد الإفراط الدونكيشوتي.
لم يكن القرار 1860 أكثر سوءاً من منظور حاجات المقاومة وضروراتها من القرار 1701، ولكن يغيب أحياناً عمّن يمتهن الإرادوية المفرطة في العودة إلى (ستينياتها)، أن مجرد اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار إنما يعني أن الذين قاموا بإعداده خارج الإرادة العربية الضائعة، أعني فرنسا وبريطانيا وأميركا، يستشعرون خطر لغة الانفتاح على تفجير المشرق منذ أن أرسلت رسالة الصواريخ المنطلقة إلى شمالي إسرائيل، وهي رسالة قد مجّها البعض لكنّها أسهمت في تفعيل اللحظة الفاعلة في زج القرار على سكة المناقشة والإقرار، وهي رسالة في العرف الدبلوماسي الذي لا يدركه الإرادويون المفرطون في تضخم ذواتهم، النرجسية، ترد على الصواريخ المذكورة بالاستجابة لرسالة العقلانية الموجهة عبرها.
أما أن انبعاثاً اندروبوفينياً أو صينياً وراء هذا القرار، فهذا لا يمكن أن يكون إلا من بنات أفكار التطهرية التي يبدو أنها لا تقرأ ولا تتابع ولا تريد إلا أن تبيّض ماء وجهها بالادعاء والتقوّل وهذا ليس أخلاقياً بأي حال من الأحوال وليس إلّا دونكيشوتياً أنوياً Egocentrist لا يرقى إلى أخلاقيات معركة لم تعد تحتمل الابتذال، ولم تعد تقبل البينيّات و(النص نص) والتطهّر المتذاكي.
ولم يتوقف أبو خليل عند هذا الحد بل سمحت له رصانته الأخلاقية العلمية بأن يتقوّل ما لم نقله بخصوص القرار 1559 دون أن يرف له جفن الأكاديمي الذي عليه أن يعود إلى النصوص فإذا به يتقوّل. ترى هل نحن الذين نقلنا لا أخلاق التقوّل إلى جامعة كاليفورنيا أم أن أكاديميّي أميركا كلهم أبو خليليّين. أم أن هذا ليس له تسمية أبعد من الكذب الموصوف. ولعل الكذب هنا أميركاني انتقل إليه بالعدوى.
لقد آن الآوان لأن نضع أيدينا بأيدي بعض، بعيداً من هذه التكتكات من الدرجة الثامنة، بالاتكاء على فتح النار على الحلفاء لشرعنة قصف الأعداء، وذلك كله في وقت كان همنا أن نقول فيه إنه ممنوع هزيمة حماس، ولا أي مقاومة، لأن هزيمة كهذه ستعني القضاء على آخر ما تبقى من عروبة مستهدفة بالتشظي. وليس همّنا الاستعراض في فهمنا لخطورة قرارات مجلس الأمن وسوئها التاريخي، وكأننا نعيد اختراع الدولاب السومري أو نحاول عبر نقدوية ذاتوية التفضل بنقد ما هو معروف في محاولة لتربيع الدائرة أو بتفسير الماء بعد الجهد بالماء، في وقت لم نعتدِ على عقل المشاهد أو القارئ، اللهمّ إلا إذا كان المطلوب خليليّاً أن نحمل حمولة نقائيّته السياسويّة التي لا ترقى إلى بيوريتانية حقيقية.
وبالمناسبة إذا كانت الولايات المتحدة قد امتنعت عن التصويت على القرار 1860 فليس هذا مرده إلى عدم رغبتها في تنفيذه فحسب، بل لأنها لا تريد أن تظهر على أنها تركت المظلة التي كثيراً ما أرختها فوق إسرائيل، وبالتالي عدم دفع «عرب الاعتدال» إلى أن يقرأوا ذلك ككلمة سر تعفيهم من عرقلة عقد القمة العربية، أضف إلى أن لا قرار (كما لا يعرف أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا!) يخص الصراع العربي الإسرائيلي قد صدر على الفصل السابع (لا البند السابع كما يكرر خطأً الأستاذ الوقور) بخطأ يتجاوز الخطأ الشائع إلى الخطيئة الأكاديمية. فالفرق الكبير بين
chapter و article ليس لفظياً فحسب، بل هو في صلب مادة القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، والخلط بينهما هو نوع من التمادي الثقافوي على النص القانوني، الأمر الذي يحيل كل تحليل سياسي إلى نوع من الذاتوية التي لا تعرف من السياسة إلا كمحب لا يعرف من الحب إلا كلمة وحشتني.
لقد آن الآوان لمن لا يعرف من السياسة إلا علومها (ربما!) أن ينتحي إلى جانب الوجدانية السياسية والتأمل السياسي، ولا يحشر أنفه في معادلات السياسة باعتبارها فناً للممكن. صحيح أن الشتامية السياسية تفيد في مواجهة أقرانها ولكن عليها ألا تتّشح بأي وشاح من الأكاديمية.
إنّ زمن فرز القوى يحتّم على الذين هم في خط واحد ألا يصطاد بعضهم بعضاً، وما كتبناه ليس للسجال الذي خرجنا منه، ولا يجوز أن يكون أصلاً بيننا، واخترنا له لغة نخبوية بديلاً من الفضائحية الشعبوية، وهو إنما للدعوة للكف عن العبث واللعب خارج الملعب، في وقت نقدّر فيه لصاحبنا جرأته في مواجهة «المرتدّين»! وإمساكه بسمت الصراع الرئيس، والمؤكد أن المسافة بينه وبيننا ليست أبعد من المسافة بين عينه وأذنه.
* كاتب سوري