حسين بن حمزةكانت يمنى العيد تفضّل حواراً عن تجربتها النقدية. «لا أحب أن أروي سيرتي الشخصية. ماذا سيجد القرّاء فيها؟». لكنّها حين بدأت بالكلام، بدا أن سيرتها النقدية تطفو على تفاصيل ومنعطفات حياتية... ما كان لتجربتها النقديّة المرموقة أن تستوي من دونها.
البداية من طفولتها في صيدا القديمة في جنوب لبنان. ابنة عائلة المجذوب ذات الأصول المغربية عاشت في حي «رجال الأربعين». لا تزال صاحبة «في القول الشعري» تتذكر حميمية العيش في منزلهم القديم، حيث الواقع والخيال يسكنان جنباً إلى جنب، والحكايات لا تتوقف عن السحر والجان والكنز المدفون في القبو. الحي الذي هُدم لشقِّ طريق حديثة ظلّ في البال إلى حد أنها فوجئت بدموعها في فاس، وهي بضيافة محمد بنيس. استفسر منها الشاعر المغربي المعروف عن الأمر، فقالت إن نمط العمارة حولها هناك، واستعادتها لأصولها المغربية لا بدّ أيقظا لديها ذلك المذاق الحميم لطفولة بعيدة. لم تكن ثمة صفوف ثانوية للبنات في صيدا. كانت هناك «ختمة». البنت تختم القرآن وتلزم البيت أو تتزوج. بعض البنات كنّ يدرسن سنوات عدة في «المقاصد»، ثم ينضممن إلى أقرانهن في البيوت. الخيار الآخر كان متوافراً في «المدرسة الإنجيلية»... لكن كان من المستحيل أن تنتسب إلى «مدرسة الأميركان الكفار» بحسب تعبير أهلها.
التلميذة الطموحة شاء حظّها أن يفتتح صف لـ «السرتفيكا» عامذاك في المقاصد نفسها. هكذا تابعت دراستها، وأنهت الـ «بروفيه» بتفوّق، ثم حان موعد مشكلة الشهادة الثانوية. «هنا أسدى إليّ أهلي خدمةً بإرسالي إلى مدرسة الراهبات في زقاق البلاط التي لم أرتح فيها بسبب الجو «السنوب» الطاغي عليها، فانتقلت إلى مدرسة راهبات العائلة المقدّسة ـــ «سانت فامي» ـــ في الأشرفية. أتذكر أن الممثلة الراحلة رضا خوري كانت في صفي، بينما سونيا بيروتي ولطيفة شمعون (ستصبح لطيفة ملتقى بزواجها بالمسرحي أنطوان ملتقى) كانتا في صفوف أعلى».
في عام 1953، كانت يمنى العيد البنت الصيداوية الوحيدة التي تحصل على بكالوريا الفلسفة. لكنّ طموحها إلى إكمال الدراسة في فرنسا اصطدم برفض الأهل: «كنت متيقّنة أن اللغة الفرنسية ستكون لي بمثابة نافذة مشرّعة على العالم. طموحي كان أكبر من أن أكون معلمة عادية. أهلي عرضوا عليّ التسجّل في الجامعة الأميركية في بيروت، لكنّي لم أكن أحب الإنكليزية. هم عاندوا وأنا عاندت. في النهاية خضعت، ودرست الأدب العربي في الجامعة اللبنانية». بعد تخرجها، درّست في بيروت مدة أربع سنوات، ثم عُيِّنت مديرة للمدرسة الثانوية في صيدا. كان ثمة صفان فقط في المدرسة، فنجحت في تأسسس مدرسة ثانوية حقيقية. في تلك الفترة عاد مهدي عامل إلى لبنان، وعُين أستاذاً في الثانوية نفسها. ولاحقاً جاء حسن عبد الله وحمزة عبود وحسن داوود... وظيفتها ومسؤولياتها كزوجة وأم لم تُنسياها طموحها الأكبر، فأنهت دراسة الدكتوراه عام 1977. صيتها في تعليم الفرنسية ومستوى طلابها المميز في مدرسة حكومية، دفعا رئيس البعثة الفرنسية في صيدا إلى تقديم منحة تخوِّلها الذهاب إلى باريس والتسجّل في السوربون. حينذاك كانت تواجه مماطلة واضحة من الجامعة اليسوعية التي لم تكن إدارتها تستسيغ هذه اليسارية القريبة من الشيوعيين.
الحل جاء من مهدي عامل الذي اقترح عليها الكتابة إلى أستاذ فرنسي اسمه آرنال ديز الذي هوَّن عليها مشكلة البقاء في فرنسا بعيداً عن أولادها، فوافق على أن تنهي أطروحتها في لبنان. الشهور القليلة في باريس عرّّفتها إلى محمود أمين العالم، وأمينة رشيد، وأندريه ميكال، وجمال الدين بن شيخ الذي أُعجب بأفكارها عن هوية النقد والكتابة والمرجعية.
تلك الأفكار قادتها لاحقاً إلى تبني مفهوم «المرجع الحي»، بهدف تحرير الأدب العربي من المحاكاة، وورَّطتها في التجريب داخل الممارسة الروائية العربية واللبنانية. «هذا هو مشروعي الأساسي» تقول يمنى العيد: خلق مرجعية عبر الذاكرة المحلية، وصولاً إلى نماذج روائية راهنة... لكنها تأسف لأن هذا المقترح «لا يُتناول بجِديّة من القراء والنقاد». اشتغلت يمنى العيد ضد فكرة الناقد باعتباره سلطة عليا لكيفية قراءة النص: «الناقد منتج للوعي والمعرفة، لا سلطةٌ معطاة بديهياً. أنا سعيتُ إلى جعل كل قارئ ناقداً، وعلَّمت طلابي كيف يصبحون نقّاداً».
الحيوية والانفتاح اللذان وسما مشاغلها النقدية، دفعاها إلى تناول متحرر للنصوص الإبداعية، غير محكوم بموقع أصحاب تلك النصوص من دوائر التكريس. حضر في دراساتها «الكبار» و«النجوم» إلى جانب التجارب الجديدة. نتذكر أنها كانت من أوائل الذين اشتغلوا على نتاج شعراء السبعينيات: عباس بيضون، وحسن عبد الله، وإلياس لحود، ومحمد العبدالله... ولاحقاً حضر جيل أكثر شباباً: فادي أبو خليل، يحيى جابر، يوسف بزي... وقد خصصت أحد آخر أبحاثها لتجربة ربيع جابر في الرواية.
الدكتوراه نقلتها من التعليم الثانوي إلى الجامعة لتدريس مادة «النقد الأدبي». في الجامعة، كانت هي وبعض أقرانها (أدونيس وخالدة سعيد ورشيد الضعيف...) في واد، والباقون في واد. «حوربنا بشراسة. وخصوصاً بعد عام 1982. بعض الطلاب صارحوني بتلقِّيهم نصائح بعدم الدراسة في صفي. كانوا يقولون إني شيوعية، وحين قُتل حسين مروة ومهدي عامل، قالوا لي في المرتين: لقد قُتل صديقكِ! كانوا يتشفّون بي. أظن أن أحد أهداف الحرب كان تدمير الجامعة اللبنانية، وهو ما نراه اليوم في انقسام الجامعة بحسب الطوائف». هل كنت شيوعية فعلاً؟ أسألها: «انتسبت في أوائل السبعينات، وبقيت فترة قصيرة. كانت علاقتي محصورة بالقطاع الثقافي، ثم تركت الحزب بسبب عدم استقلالية الثقافة وغياب الديموقراطية».
كثيرون لم يعرفوا أن حكمت المجذوب الصباح هي نفسها الناقدة يمنى العيد. في الجامعة كان اسمها «دكتورة خطيب» بحسب كنية زوجها. من أين أتى اسم يمنى العيد؟ «كنتُ موظفة في الدولة، والنشر باسمي الحقيقي يحتاج إلى إذن رسمي. كما أني، بتشجيع من محمد دكروب، نشرت بعض المقالات في مجلة «الطريق»، فظنّ الكثيرون أن اسم حكمت المجذوب عائد لرجل. مهدي عامل اقترح اسم يمنى العيد. وقتها لم أكن آخذ فكرة الاستمرار في الكتابة على محمل الجدّ. كنت مديرة مدرسة، ولديّ أولاد، وأطروحة دكتوراه». متى تأكدت أنك ستصبحين الناقدة التي نعرفها اليوم؟ تقول ضاحكة: «ما زلت غير متأكدة. أحسست بشيء من هذا عام 1983 عندما صدر كتابي «في معرفة النص» في ثلاث طبعات، وبيعت منه تسعة آلاف نسخة، وتقرر تدريسه في المغرب». اليوم كبر الصغار وتزوّجوا، وتقاعدت «الدكتورة خطيب». فيما تفرّغت يمنى العيد للكتابة. وتستعد حالياً لإنهاء كتابين: الأول سيكون جزءاً ثانياً لكتابها عن فن الرواية العربية، والثاني سيكون سيرة ذاتية عن عوالم طفولتها ونشأتها في صيدا القديمة. وماذا عن ترؤسها لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية لهذا العام؟ تجيب الناقدة اللبنانيّة: «أنا سعيدة لأن الرواية العربية باتت تحظى بجائزة مرموقة كهذه. أن تُترجم كل عام ست روايات عربية إلى لغات أجنبية، هذا إنجاز كبير».


5 تواريخ

1977
نالت الدكتوراه من السوربون عن أطروحتها «الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان» التي صدرت بعد عامين في كتاب بالعنوان نفسه (الفارابي).

1978
بداية عملها أستاذة للنقد الأدبي في الجامعة اللبنانية، حيث بقيت حتى تقاعدها سنة 1999

1992
حصلت على جائزة سلطان العويس للنقد والدراسات الأدبية. وصدر لها كتاب «الكتابة: تحوّل في التحول/ مقاربة للكتابة الأدبية في زمن الحرب اللبنانية» (دار الآداب)

1996
أستاذة زائرة في جامعة السوربون، إضافة إلى جامعة صنعاء أكثر من مرة

2008
اختيرت رئيسة للجنة تحكيم النسخة الثانية لجائزة البوكر العربية، وصدرت طبعة جديدة من كتابها «في القول الشعري» (دار الفارابي)