رشيد ثابتقبل نحو أسبوعين، فوجئت شركة إسرائيلية اسمها «موبايل ماكس» برسالة بريد إلكتروني من الشريك البريطاني ــ شركة اسمها «فريدوم كول» ــ تبلغها فيها قطع العلاقات بين الشركة البريطانية والشركة الإسرائيلية وكل الشركات في الكيان الصهيوني. نص رسالة «فريدوم كول» يقول: «نتيجةً لأفعال الحكومة الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية، نحن نقرر الامتناع من الآن فصاعداً عن إقامة أية علاقات تجارية معكم أو مع أي شركة إسرائيلية أخرى».
هذه رسالة لم يكتبها مصري عربي مسلم من الذين سيأكلون حلواء «العاشوراء» بعد أقل من أسبوع ويشغلون في الوقت نفسه مناصب تتحكم في قرار تصدير الغاز للكيان الصهيوني. هذه رسالة لم يكتبها مسؤول فلسطيني ممن أدمنوا التفاوض مع الصهاينة وتخصصوا في تفوّهات من طراز «حماس استفزت الكيان» (حتى إن تحدث البعض عن تعليق المفاوضات فإن ذلك جاء متأخراً ومقروناً «باستمرار العدوان»؛ وهذا أمر مضحك ولا ريب؛ إذ إن الكيان في أغلب الظن لا وقت لديه أثناء الحرب للثرثرة مع هذا المسؤول الفلسطيني أو ذاك).
هذا موقف يصدر من شركة غربية أصحابها بريطانيون أقحاح يحملون صورة رجل الأعمال البريطاني الذكي واللطيف المعشر ــ ظاهراً ــ والنهم للربح والبيع والكسب ومراكمة الثروة ــ مثل معظم الغربيين ومعظم عشاق «الدنيا»!
ويتناول «لِكْوِد لَنْشْ» من الجعة والخمر كل جمعة ولا يذهب للجامع! لكن هؤلاء الناس على غربتهم عن فلسطين والعروبة والإسلام ــ ورغم الصورة النمطية القبيحة للإسلام والمسلمين في أذهانهم كما هو متوقع بالنسبة إلى عقول معظم الغربيين، يُعَلِّمُون عرب «الاعتلال» أنه حتى في البعد المادي البحت فإنه ما زال هناك محلٌّ لمكارم الأخلاق!
حتى لو كانت مصائر حكومات أصدقاء أميركا العرب في يد أميركا؛ وحتى لو كانت كل وسائل إعلامهم وسياسييهم مقرنين بأصفاد التبعية لأميركا طوعاً أو كرهاً فإن هناك فضاءً ومتسعاً للظهور بمظهر الإنسان الملتزم نوعاً ما؛ والابتعاد عن بث الخطاب الاستخذائي الساقط والمتماهي مع تعليمات «التوجيه المعنوي» في جيش الدفاع!
كثيراً ما تنوّه وسيلة الإعلام المرئية بأن الإشارة التلفزيونية رديئة «كما وردت من المصدر». هذا تنويه واعتذار للمشاهد عن رداءة الشكل؛ لكن لماذا لا يكون هناك تنويهٌ إضافيٌّ بخصوص رداءة مضمون ما نقرأه ونراه ونسمعه من المنابر «العبرية» التي تكتب وتنطق بحرف عربي؟ ألا تستحق مخرجات السياسة والإعلام «الاعتلالي» العربي ـــ والصهيوني وراءها بطبيعة الحال ـــ بثها مشفوعة بملاحظة تعتذر عن المضمون القميء؛ أو مصحوبة بتحذير مثل الذي يكتب على علب السجائر من نحو: «إن متابعة خطاب وأخبار فريق الاعتلال العربي بسياسييه وإعلامييه ورقَّاصيه ــــ بمن فيهم «الهلفوت» ما غيره ــــ والصهاينة والأميركيين معهم لهو سبب رئيسي من أسباب الإحساس بالقهر والقرف والغثيان»؟ حين نقرأ أموراً من نحو:
- «زعماء عرب حثوني على عدم وقف الحرب على غزة والاستمرار في ضرب حماس» (إيهود أولمرت). ـــ «إنهم ليسوا فقط يدعمون تدمير حركة حماس من جانب إسرائيل، بل إنهم يزوّدون الإسرائيليّين بالمعلومات» (الصحافي جيفري غولد برغ عن حفنة من أيتام دايتون). نتساءل: هل جون سميث في فريدوم كول «عنده دم» وهؤلاء ليس «عندهم دم»؟ طيّب أوقفوا التعاطف القلبي ـــ للأوائل ـــ والتنسيق الأمني ـــ للأواخر ـــ ولو بسبب العدوان وتأسّياً ببعض البريطانيين! وكما أن الموقف المريع والمخزي يكون صادماً حين يصدر عمن يسمّون «الإخوة» و«الأشقاء»؛ فإن المرء في المقابل ليعجب للكلمة الحقة حين تصدر عَمَّن لم تتوقع منهم أن يقولوا ما قيل؛ فيما المنوط بهم أن يقولوا، لا يقولون!
ومن ذلك نشر الكاتب الصهيوني جدعون ليفي مقالاً يُسَخِّف ويُحَقِّر من قيمة «ضربة الكيان الجوية الأولى»؛ ورأى أن استهداف المواقع المدنية في سماوات ليس فيها شبكة دفاع جوي وشبكة رادار لهو عمل لا يمت للشجاعة بصلة! هذا فيما إعلام المتأمركين العرب لا يزال يخض في زبدة «الضربة الأولى» و«المفاجأة»؛ إنه لمن المحزن والمخزي والمؤسف أن يصمت العرب الرسميون دهراً ثم يختمون صمتهم الذاهل هذا باجتماعٍ هزيل اجتهد فيه عمرو موسى في افتعال واجتراح الحزن وإظهار الاهتمام والاغتمام للوضع العربي ـــ لا أعرف كم مرة للآن شاهدنا مثل هذا المقطع المسرحي منه ـــ فيما شدقاه المفتوحان على وسعهما ضحكاً في المؤتمر الصحافي يدلان على أنه خالي البال حقيقةً من الحزن المسجوع الذي تلاه على مسامع الأمة؛ وحمّل فيه «الانقسام الفلسطيني» مسؤولية فشله وفشل نظامه الرسمي العربي وعجزه عن أن يكون بحساسية وإنسانية جون سميث!