إيلي شلهوبباشر جورج ميتشل جولته في المنطقة، وفي جعبته توجيهات رئيسه باراك أوباما الذي يبدو واضحاً أن الأولوية لديه «تثبيت وقف النار» في غزة عبر إقامة «نظام لمنع تهريب» الأسلحة إلى «حماس». واقعة اختيار القاهرة لتكون محطته الأولى ليست محض صدفة، بل تعكس إقراراً بدور مصر في هذا الملف، إن لم يكن احتكارها له. وفي هذا وذاك كثير من الدلالات. كذلك الأمر بالنسبة إلى السرعة التي تحركت بها الإدارة الجديدة، إن من حيث تعيين مبعوث رئاسي كامل الصلاحيات، واستعجال إيفاده إلى بؤرة الصراع من أجل «الاستماع»، أو من حيث الفاعلون الإقليميون الذين لم يُستبعد أن تشملهم الجولة، مثل تركيا وسوريا، ناهيك عن إقرار أوباما بترابط أزمات المنطقة وضرورة النظر إليها نظرة «كلّية»، وتأكيده العزم على محاورة إيران وفقاً لشعار «اليد الممدودة».
بهذا المعنى، يمكن اختصار الحراك الأميركي الحالي، مع بعض المجازفة، على الشكل الآتي: تبنّي المقاربة المصرية لإنهاء ملفّ العدوان الأخير على غزة، مرفقاً بـ«دبلوماسية نشطة» على كل المسارات، تعتمد صيغة الاتصال المباشر مع «الأعداء» و«التعاون مع أوروبا وروسيا» ومعهما الدول العربية الفاعلة وتركيا، بحثاً عن تصوّر متكامل يضع حداً لصراعات المنطقة. أما الرافعة التي تتكئ عليها هذه الإدارة فهي «القوة الذكية»، بمعنى استخدام جميع عناصر القوة الأميركية وعدم الاكتفاء فقط بالعسكرية منها، التي أصابها ما أصابها بعد حربي أفغانستان والعراق.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن البذور الأولى لهذه المقاربة زرعتها غير المأسوف عليها كوندي رايس في الأشهر الأخيرة من عهد الإدارة السابقة، إلا أن الإرث الثقيل لجورج بوش وتعنّت من بقي من صقور إدارته، ومعهما ضيق الوقت، حالت دون تفعيلها واستثمار نتائجها.
مهما يكن من أمر يبقَ السؤال عن استخدام إدارة أوباما هذه «القوة الذكية» وهذه المقاربة لتحقيق ماذا؟ المؤشرات الأولى تبدو غير مشجعة، قياساً بالآمال التي علّقها البعض عليه؛ أمن إسرائيل لا يزال الشاغل الأكبر لواشنطن، ليس بالمعنى الاستراتيجي فحسب، بل بشكل يثير السخرية (أكثر من 1300 شهيد فلسطيني في مقابل بضعة قتلى إسرائيليين ويبقى العدوان «حق دفاع عن النفس»). إنهاء المقاومة لا يزال هدفاً أميركياً، ومعه فرط عقد جبهة الممانعة، التي يبقى تدجينها الغاية الأساسية. كذلك حال المفاوضات، التي تبقى هدفاً بحد ذاته على أمل أن يخرج الحل من رحمها. الاعتراف بإسرائيل هو هو: شرط للحوار بلا ثمن. المبادرة العربية لا تزال تشير إلى «شجاعة كبيرة» وأهم ما تتضمّنه من بنود هو التطبيع الشامل.
أما حل الدولتين فيبدو منسوخاً من أدبيات بوش، ومعه إغفال مصير المستوطنات واللاجئين والقدس. الأنكى من ذلك أن الخلفية التي تدفع أوباما إلى تأييد إقامة دولة فلسطينية، ليست حقيقة أن هناك شعباً اغتُصبت حقوقه ويستحق أن يُعاد له بعض منها، بل واقعة أن هناك شعباً يعيش على بقعة أرض مقطّعة الأوصال وفي حال اقتصادية مزرية تحول دون إمكان أن يحقق أطفاله طموحاتهم وآمالهم. لذلك هو يسعى إلى إقامة دولة فلسطينية «تسمح بحرية الحركة لكل أبنائها، وبالاتجار مع غيرها من الدول وبإقامة مشاريع تجارية وغيرها من الأعمال لكي يتمكن الناس من أن تكون لهم حياة أفضل».
حتى جورج ميتشل، الزائر الجديد ـــــ القديم للمنطقة، وسمعته المصطنعة كوسيط متوازن في الصراع. صحيح، ربما كان متوازناً في التقرير الذي أعده في عام 2000 بطلب من بيل كلينتون وقدمه إلى جورج بوش في العام التالي. لكنه كان كذلك فقط لأن اللجنة التي رأسها كانت تضمّ زعماء عالميين، بينهم الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل، ووزير خارجية النروج في ذلك الحين ثوربغورن جاغلاند، إضافة إلى خافيير سولانا. ولأن اللجنة نفسها كانت تستهدف قطع الطريق على لجنة أخرى شكّلتها الأمم المتحدة للتحقيق في أسباب انتفاضة الأقصى والنظر في حلول ممكنة لوقف «العنف»، وبالتالي، ما كان ممكناً لتحيّزها أن يكون فاضحاً. لعل مواقفه من صراعات المنطقة عندما كان عضو مجلس شيوخ أكثر تعبيراً عن حقيقته.
لا شك في أن أوباما، ومعه هيلاري وميتشل وباقي طاقم إدارته، يدركون أن المنطقة التي يتعاملون معها تختلف جذرياً عن تلك التي تعاطى معها بوش، إن لم نقل أدّى دوراً محورياً في إعادة تشكّلها، بكل ما يعني ذلك من سلبيات وإيجابيات بالنسبة إلى واشنطن: غاب صدام حسين والطالبان، وحل مكانهما إيران وسوريا وحزب الله و«حماس»، مع موازين قوى عسكرية لغير مصلحة العم سام، بينما أصبحت القاهرة أقلّ حياءً، والرياض أكثر مطواعية، ورام الله أكثر استسلامية، وأنقرة أكثر حضوراً مع رئيس وزراء يبدو عروبياً أكثر من العرب أنفسهم.
«تغيير» قلب أوضاع الشرق الأوسط رأساً على عقب، تحاكيه الإدارة الجديدة بـ«تغيير» في الأسلوب والأدوات لتحقيق ما عجزت عنه سالفتها السيئة السمعة والذكر.