strong>معمر عطوي *طرحت معركة غزة جدلاً واسعاً في أروقة السلطة في العالم العربي، عن أولوية الخيار بين الدولة والأمة. وباتت المصلحة الذاتية لهذا الحاكم أو ذاك، على محكّ السقوط، أمام ما سبّبته هذه الحرب من إحراج لبعض الزعماء العرب، في ظل تحرّكات شعبية كبيرة، متضامنة مع غزة ومنتقدة للنظام العربي الرسمي. بالتأكيد، بقي هذا الجدل غير مُعلن، وربما غير معبّر عنه في وسائل الإعلام. بيد أنه تجسّد في طريقة تصرّف الحكّام، وأدائهم اللامسؤول تجاه قضيتهم المركزية، شاؤوا أم أبوا. أداء أوحى به السلاطين لوعّاظهم من رجال الدين المرتزقة وبعض مثقفي السلطة، لكي يُسهبوا في الحديث عن أهمية الحفاظ على الكيان وعدم تعريضه للفوضى والتفكك وانتشار الفتن.
انطلاقاً من هذا الجدل، توالت «الفتاوى» والتصريحات من هنا وهناك؛ تارة عن ضرورة منع التظاهر واعتباره «عملاً غوغائياً»، وطوراً عن ضرورة احترام قرار السلطة المصرية بإغلاق المعابر أمام الجرحى والمضطهدين، بحجة أن مصر «لا تستطيع استيعاب لاجئين جدد» على أرضها التي تحتضن أكثر من 70 مليون بشري، أو أمام المساعدات الإنسانية والطبيّة التي تدخل من الجانب المصري.
تصريحات سبقها كلام لشيخ الأزهر، محمد سيد طنطاوي، قبل أيام قليلة من بدء العدوان على غزة، حين قال «غزة إي وحصار إي؟»، مستهيناً بما يعانيه «إخوانه» في القطاع المنكوب، ومتخليّّاً عن «مسؤولياته الشرعية» في إغاثة الملهوف وإعانة المظلوم التي أوصاه بها دينه ونبيّه في الأحاديث الواردة عن السلف: «ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه»، و«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
في الحقيقة، يتبيّن من خلال الممارسات السياسية السائدة، أن خيار الدولة هنا وحفظ وحدتها، ما هو إلا أكذوبة اخترعها القيّمون على الحكم، ونظّر لها بعض المثقفين ورجال الدين، من أجل بقاء السيد على عرشه، مهما حدث للآخرين. وإلا ما جدوى الدولة الحديثة السائدة في منظومتنا العربية القبائلية، في وقت تنعدم فيه آليات تداول السلطة، ويتفشى فيها الفساد من قمة الهرم حتى القاعدة، وينتشر الفقر رغم الثروات النفطية والطبيعية في هذه البلاد، وانعدام التوزيع العادل للثروة، حيث يتمتع الأغنياء بما يفتقده الفقراء.
وأمام هذا الواقع، أين هو دور رجال الدين والمثقفين (الحريصين على وحدة الدولة وأمنها)، في إيقاف الحاكم عن طغيانه؟
الحاكم يعزّز الشرخ الاجتماعي والتفاوت الطبقي. بهذا المعنى، كانت اتفاقية «كامب دايفيد» في عهد أنور السادات بنظر هؤلاء النفعيين، «مجلبة للمصالح» بالنسبة لمصر، تدرأ مفاسد الحروب وتوفّر «إلقاء الأنفس في التهلكة». لهذا، انبرى كل من شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية آنذاك، إلى إصدار الفتاوى التي تسوّغ للحاكم توقيع سلام مع الأعداء متسلحيّن بالآية القرآنية «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله» (الأنفال ـــــ 61)، ولم يكن الفقهاء الذين روّجوا لتلك المعاهدة آنذاك، على بصيرة ثاقبة، يدركون من خلالها مدى حجم «المفسدة» التي سيجلبونها ليس فقط على مصر، بل على العالم العربي برمته، بخروج القاهرة من اتفاقية الدفاع العربي المشترك وبتوسيع دائرة المعارضين للحكم الذي لا ينسجم مع طموحات شعبه بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
حتى ذريعة تفكك الدولة التي تحدّث عنها الفقهاء كسبب للوقوف إلى جانب الحاكم والدولة ضد قضايا الأمة، كانت ذريعة ضعيفة وتافهة أمام ما حدث للأمة، منذ ذلك الوقت بالتحديد، من ضعف وتفكّك على أكثر من صعيد (وهذا لا يعني بتاتاً أنها كانت بحال أفضل بكثير من قبل طبعاً).
المشهد يتكرّر بعد حوالى عقدين أثناء غزو العراق، حين أفتى شيخ الوهابية السعودية عبد العزيز بن باز بجواز الاستعانة بالأجنبي من أجل مقاتلة حاكم ظالم «يهدد أمن الخليج» (صدام حسين)، مستشهداً بعدة الشغل من الآيات والأحاديث النبوية التي تشير إلى جواز الاستعانة بـ«الكافر» من أجل محاربة حاكم ظالم وما إلى ذلك من تبريرات.
هذه الحرب دفع ثمنها الخليجيون، لا سيما السعوديين، بنشوء إرهاب جديد أقام صيغة توفيقية بين سلفية ابن باز في الرجوع إلى الأحاديث النبوية المروية عن السلف وحركية التنظيمات الإسلامية العريقة التي تنادي بالجهاد، ضد كل من يغزو أرض المسلمين.
المفارقة تدور هنا حول وهم فكرة وحدة الدولة وأمنها، أمام ما حل بالدويلات من فوضى وما تفشى فيها من ظواهر عنف وتطرف، هي بالدرجة الأولى ردة فعل على قرار الحاكم وفتوى رجل الدين المؤازر له «شرعياً».
هذا ما حل بالعراق أيضاً، في الغزو الثاني (2003). يومها سوّغ بعض رجال الدين، وفي مقدمتهم المرجعيات الشيعية، الاحتلال تحت شعار التخلص من صدام حسين، حين أدخلوا العراق في متاهات الفوضى والمجازر المذهبية وكل ما من شأنه زرع الفوضى واللا أمن في البلاد. سياسة سارت فيها إيران أيضاً، حيت سهّلت للأميركيين غزو جارتيها أفغانستان والعراق، بذريعة التخلص من عدوّين، أحدهما يرفع الشعار القومي والآخر الشعار المذهبي. بالطبع كانت فتاوى رجال الدين والفقهاء هنا أيضاً جاهزة لتبرير التحالف مع «الشيطان الأكبر». في ظلّ هذه المعمعمة، ينبري السؤال واضحاً هنا، عن سبب هذا الانفصام الحاصل لدى السياسي أو لدى المفتي، ذاك الانفصام الذي تجلّى عريه من خلال ازدواجية معايير الفتوى بين الحفاظ على الدولة والدفاع عن الأمة. (تجربتا أفغانستان وفلسطين).
الإجابة تبدو واضحة هنا في أفغانستان، التي تبعتها تجارب الشيشان وكشمير والبوسنة. أوعزت واشنطن ومن وراءها من دول الغرب للترويج للجهاد ضد «خطر الإلحاد السوفياتي». وساهم كل من بابا روما وشيخ الأزهر ومفتي السعودية في تشجيع الشباب للذهاب إلى قتال «الملحدين» في أفغانستان، من دون أن ينظروا يومها في مصلحة الدولة، وما يمكن لشعار الجهاد خلف الحدود أن يسببه على صعيد تفكك البنى الأمنية في هذه الدويلات بعد رجوع المقاتلين، محملين بأفكار «تكفير المجتمع» والسلفية الجهادية وتكفير الحكم الذي «لا يحكم بما أنزل الله».
بهذه الطريقة، صنعت الأنظمة العربية الإرهاب الذي مارسته على مدى عقود ضد معارضيها، لتتحوّل الضحية إلى إرهابي شرس يضرب النظام بعنف، بل يضرب أسياده في عقر دارهم. (أحداث نيويورك ومدريد ولندن).
وبالعودة إلى فلسطين ومركزيتها في ضمير الشعوب العربية والإسلامية، لم تتجرأ الدول العربية ولا فقهاؤها «الأشاوس» على خوض تجربة أفغانستان في فلسطين. اكتفت هذه المؤسسات الرسمية، التي لا تمثل شعوبها، بالبكاء على أطلال فلسطين، من دون أن تعلن يوماً الجهاد لتحرير «بيت المقدس» وما يمثله من بعد رمزي للمسلمين أكثر من أفغانستان والشيشان والبوسنة وغيرها.
هنا الفتوى محظورة ما دامت تخالف مصالح السيد الجاثم على صدور حكام العرب في البيت الأبيض.
أما فلسطين، فقد واصلت بأي حال، نضالها بلحمها الحي من دون أن تلتفت لهؤلاء المنافقين الذين يستخدمون الدين في السياسة حين يتلاءم مع مصالح أسيادهم، وبما يخدم بقاءهم في السلطة. وفي ما عدا ذلك يستغرقون في فتاوى تشريع زواج المتعة والمسيار وزواج الأطفال وما إذا كان يحق للمستنجي أن يضع إبريق الماء على يمينه وعن حكم الحائض والنفاس...
لعلّ فتاوى التحذير من خطر إيران والتشيّع كانت ملائمة تماماً لتعليمات مصالح الدول العظمى. تحذير من خطر لا يزال هاجساً، مقابل خطر جاثم على الأرض ويمارس يومياً أبشع أنواع الإجرام بحق «إخوان في الدين والعقيدة». وبهذا المعنى، يصبح السنّة في لبنان بنظر مفتي السرايا الحكومية في دائرة الخطر الإيراني الشيعي، فيما سنّة فلسطين أنفسهم على بعد أمتار من دار فتواه، يعيشون التشريد والحرمان بسبب كيان لا مصلحة للدويلة هنا أو هناك في خوض حرب ضده. أما الأمة، فهي في غير قاموس. إذ لا يمكن الإشارة إلى مصالحها وتطلعاتها، إلا إذا سمحت أميركا بالحديث عنها.
* من أسرة الأخبار