سلامة كيلة *مع أزمة الرأسمالية، تعود نغمة اليسار من جديد. وبتسرّع شديد، تعود المراهنة على اليسار. نعم اليسار ضرورة، لكن أي يسار؟ غالباً مع يتضمن الجواب لمحاً إلى أن المقصود هو الماركسيين والشيوعيين. لكن لنتفق أولاً على أن معنى اليسار يتحدد بما هو سياسي لا بما هو أيديولوجي، حيث يشير إلى القوى التي تحمل راية التطور والتقدم والتحرر والحداثة. وأيضاً الاستقلال والتكافؤ، ورفع الاضطهاد عن الطبقات المفقرة والدفاع عن مصالحها. وهذا تحديد عام، وبالتالي يشمل قوى أيديولوجية متعددة، ماركسية وقومية وديموقراطية.
سنلمس أن القوى القومية انزاحت نحو التحوّل إلى الليبرالية في ما يتعلق بالأقسام التي وصلت إلى السلطة، أو الأسلمة والتكيف مع الموجة الأصولية للقوى الأخرى. رغم أن كل القوى التي ما زالت تحمل القيم المشار إليها للتو هي في اليسار.
ما يهمنا هنا هو القوى الشيوعية والماركسية (والتمييز هنا بين نمطين من الماركسيين أو من اعتبر أنه ماركسي). فقد أفرز انهيار النظم الاشتراكية يسارات في هذا اليسار. وقد مال قطاع كبير ممن كان يعتبر أنه ماركسي، وماركسي متشدد أحياناً، إلى السير في فضاء آخر، حيث هيمنت قيم الديموقراطية، ونشطت موجة الليبرالية على أثر الانهيار. ولهذا أخذ يتسمى بـ«اليسار الديموقراطي» (مثل حركة اليسار الديموقراطي في لبنان)، أو بـ «الشعب» (مثل حزب الشعب الديموقراطي السوري)، أو «الديموقراطي الاجتماعي (مثل بعض المجموعات في مصر) أو حتى الاشتراكي الديموقراطي. وقد قام كل هذا «اليسار» على فكرة جوهرية هي أن الهدف المركزي هو الديموقراطية، وأن الديموقراطية هي الليبرالية. لهذا كان يميل إلى «التحالف» (أو الالتحاق) بقوى بورجوازية، هي كومبرادورية في طبيعتها. وينطلق من «موازين القوى العالمية» التي كانت تصبّ عند الولايات المتحدة. كما تجاهل كل المطالب الشعبية، ونسي مسألة الاستقلال، وبات جزءاً من منظومة العولمة، التي هي رأسمالية إمبريالية في طبيعتها.
هذه الموجة من «اليسار» كانت تعبّر عن تحول قطاع من الشيوعيين والماركسيين، فكرياً أولاً، حيث باتت الماركسية من الماضي، لكنه تحول منطقي في المستوى السياسي الطبقي، حيث كانت، وهي شيوعية، تنطلق من ضرورة انتصار البورجوازية ــ لكن «الوطنية» التي تحقق الحداثة وتبني الصناعة وتوسع من حجم الطبقة العاملة. لكنها اكتشفت، كما يبدو، أن هذه البورجوازية هي «صورة ذهنية» لم توجد في الواقع. لهذا لم يكن أمامها وهي المدافعة عن انتصار البورجوازية سوى التكيف مع «البورجوازية الواقعية» بكل إهابها الكومبرادوري، وميولها التابعة، وتخلفها باستخدامها كل مكنونات التخلف القائم (الطائفي والمذهبي والقبلي). الأمر الذي دفعها إلى حصر المسألة في الديموقراطية كشكل مضاد للنظم «القومية»، وقبول طابعها الليبرالي، وبالتالي تقديم مشروع ليبرالي على مقاس تلك البورجوازية.
هل ما زال هذا القطاع في اليسار؟
إذا تجاوزنا الطابع الأيديولوجي الذي فُقد لدى كل هؤلاء، فإن البرنامج السياسي المطروح، والتحالفات التي قامت على أساسه، يشيران إلى تحوّل نحو اليمين، أي نحو التعبير عن الطبقة المسيطرة، أو الساعية نحو السيطرة في النظم التي أُسقطت فيها البورجوازية القديمة. وهنا لا يعود الماضي هو المحدد لطبيعة هذه القوى، بل يكون الراهن هو أساس تحديد طابعها السياسي الطبقي.
لقد باتت خارج اليسار إذن، بغض النظر عما تسمي ذاتها، حيث ليس الشخص بما يدّعيه، بل بما هو في الواقع، كما أشار ماركس مرة.
من هذا المنطلق، يجب أن نعيد تحديد معنى اليسار، والماركسي خصوصاً، لأن فرز الجبهات أمر ضروري في كل صراع، حيث الخلط يشوّه ويدمّر. ولا أظن أنه يمكن أن يكون هناك يسار لا ينطلق من الصراع مع الرأسمالية المهيمنة التي تقف أمام تطور كل الأمم المُتخلّفة، ولا ينطلق من تحقيق الاستقلال في مواجهة قوى الاحتلال، ويقبل بالتكوين المجتمعي الذي تعمل البورجوازيات التابعة على تكريسه، مثل الطائفية والنظام الطائفي، ولا يدافع عن الطبقات المفقرة، ولا ينشد التطور والحداثة.
هذه قيم عامة لليسار، ليس يسارياً من لا يدافع عنها. وهي قيم يمكن أن تُتضمن في أيديولوجيات متعددة، ماركسية وقومية وديموقراطية، رغم اختلاف الخيارات بين هذه الأيديولوجيات. وبالتالي، بات من الضروري تحقيق الفرز انطلاقاً منها، لأنها تتيح تجاوز الشكلية التي تقوم على اعتماد التسمية كتحديد لطبيعة القوى. فليس مهماً أن يكون اسم الحزب يسار ديموقراطي أو اشتراكي ديموقراطي أو اجتماعي ديموقراطي، بل المهم ما يطرحه من تصورات وأفكار وبرامج.
لقد استخدمت بعض القوى تعبير اليسار وهي تميل نحو اليمين طيلة العقدين الماضيين، متكيّفة مع التوسع الرأسمالي المعولم، ومدافعة عن اقتصاد السوق وإنهاء دور الدولة الاقتصادي، وبالتالي عن الليبرالية التي عمّمتها المراكز الإمبريالية. وقد تجاهلت مسائل الاستقلال والتطور (إلا عبر التكيف مع الرأسمالية)، ووقفت ضد الميول القومية والمقاومة، ورفضت الصراع الطبقي والثورة، مكتفية بالنضال السلمي الديموقراطي. واعتبرت أن الاشتراكية هي وهم، أو على الأقل هي أفق بعيد إلى حد التلاشي. لهذا لم يعد لليسار من معنى، ولم تعد هي من اليسار رغم التسمية التي باتت لا تعني شيئاً.
تفرض هذه المعطيات، مسألة أن يعاد النظر في معنى اليسار واليساري، وأن لا يُكتفى بالتسميات، بل أن يجري الانطلاق من المواقف والسياسات. ولهذا، حينما يباشر التأسيس لعمل يساري، فيجب أن ينطلق من هذا الفرز، ويقوم على أساسه، وإلا فسيستمر الاختلاط القائم، وستستمر الفوضى الفكرية. فاليسار ليس تسمية بل موقف، وهو فعل أولاً وأساساً.
لقد انسلخ جزء مهم ممن كان في صف اليسار في العقود الماضية، وبات في صف آخر هواه ليبرالي، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها. فإذا كان وضع الأزمة الرأسمالية يفرض إعادة بناء اليسار، فلتكن البداية واضحة، أي يسارية!
* كاتب عربي