بينما يتخذ الحديث عن ملاحقة إسرائيل قضائياً بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها في غزة أخيراً، نبرة أكثر حزماً من المرّات السابقة، يبدو من المفيد تتبع مسار الدعوى اللبنانية التي تردد الحديث بشأن إقامتها ضد إسرائيل منذ نهاية عدوان تموز 2006. رزمة من الأوراق تهافتت جهات رسمية ومتخصصة عديدة إلى تجميعها، لكنها، لسبب أو لآخر، لم تجد طريقها بعد إلى أروقة المحاكم الدولية
رنا حايك
بشّر فجر 14 آب 2006 بانتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان. فوراً، وقبل أن تضمحل آثار الحروق عن أجساد الضحايا، بدأت جهات عديدة رسمية وغير رسمية بتوثيق العدوان، لتكتشف «هدية» غير مقصودة خلّفتها إسرائيل: قنابل انشطارية وعنقودية محظورة دولياً، يكفي إثبات استخدامها لتقديم دعوى بارتكاب جرائم حرب.
استغلت وزارة العدل يومها تلك «الهدية»، وقدمت للحكومة تقاريرَ عن كيفية ملاحقة إسرائيل، كتلك التي كانت قد قدمتها عام 1996 بعد عدوان «عناقيد الغضب»، التي اختمر حقدها، فاعتصر دماء الأطفال المحتمين بمقر للأمم المتحدة في قانا، نبيذاً أسكر قادتها.
اتخذت هذه التقارير مسارها، لتفضي، بعد مرور عام، إلى صرف الحكومة سلفة قيمتها مليون و600 ألف دولار أميركي، تتيح للوزارة المذكورة المباشرة بالإجراءات اللازمة للادعاء.
بموازاة ذلك، كان مقرّر لجنة حقوق الإنسان في المجلس النيابي، غسان مخيبر، يعد تقريراً آخر عن القضية ذاتها، بمساعدة محامين متطوعين، لتحضير ملف مشابه، بينما أعدت مجموعات أخرى تقاريرها.
أفضت هذه التحركات إلى مراكمة ملفات كثيرة لقضية واحدة، وصل بعضها إلى هيئات قضائية دولية لا تمتلك قراراتها صفة إلزامية، بينما ظل بعضها الآخر رهينة الأدراج لسبب أو لآخر.
بالنسبة لملف الدعوى الذي أعدته وزارة العدل، يرجّح الوزير إبراهيم نجار أن تردّ الدعوى شكلاً لو استندت إليه «لأن الملف الذي تسلّمته من الوزارة السابقة غير مستوف للشروط، وتحيط به التباسات متعددة ليس أقلها خطورة ردّه شكلاً»، كما أوضح في اتصال مع «الأخبار». وتابع «أن تكاليف دعوى كهذه لا تقل عن مليوني دولار، لذلك يستوجب رفعها قراراً حكومياً لا قرار وزارة فحسب»، مستبعداً وجود أية اعتبارات سياسية وراء التأخر في تقديم الملف، فالاعتبارات «قانونية ولوجستية صرف» كما أكّد.
تأكيد ينفيه مخيبر، الذي رأى، في لقاء مع «الأخبار»، أن «وسيلة المقاضاة القانونية لملاحقة إسرائيل موجودة، عكس الإرادة الجدية لمختلف الأطراف اللبنانية». لا بل إنه أكد، استناداً إلى أبحاث قانونية أجراها، «أن المحكمة الجنائية الدولية تملك الصلاحية اللازمة، على الوجه الشرعي، لتقديم الملف للمدعي العام لديها». في إشارة منه إلى إحدى الوسائل القانونية المتاحة للملاحقة. هنا، يقتضي التذكير بالوسائل الأخرى الممكنة: فإلى جانب إمكان لجوء المتضررين بصفاتهم الشخصية إلى محاكم وطنية لديها حق القضاء الشامل، من الممكن التوجه إلى محكمة العدل الدولية. وفيما يقف عدم التزام لبنان وإسرائيل بصلاحية هذه المحكمة عقبة أمام التقدم بالدعوى أمامها، يبرز إمكان الالتفاف على ذلك من خلال اتفاقية «معاقبة جرائم الإبادة الجماعية لعام 1948» التي وقعت عليها الدولتان. فهذه الأخيرة تمنح في مادتها التاسعة المحكمة المذكورة صلاحية النظر في أي نزاع ينشأ عن تفسير الاتفاقية أو تطبيقها، ولو أن هناك صعوبة تتمثّل بالتوصيف القانوني لما ارتكب على أنه إبادة، لكون الإبادة فعلاً يفترض أن المستهدف لإبادته هو عرق أو طائفة لل جنسية محددة.
أما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية، التي تحاكم أفراداً لا دولاً، فهناك ثلاث وسائل للادعاء أمامها، تُستبعد اثنتان منها: الأولى لتطلّبها تقدم دولة طرفاً في نظام المحكمة بطلب الادعاء، وهي ليست حال لبنان ولا إسرائيل. أما الثانية، وهي إحالة الدعوى من جانب مجلس الأمن، فتبدو مستحيلة بسبب الفيتو الأميركي. لا يبقى إذاً إلا الوسيلة الثالثة، وهي التي أشار إليها مخيبر، وتقضي بإحالة الدعوى أمام المدعي العام لدى المحكمة، الذي يعود له قرار تحريك الدعوى أو عدمه.
هكذا، يعتقد مخيبر أن «لبنان يمتلك فرصة ذهبية يجب عدم هدرها. لأن الدعوى من شأنها تحقيق مكسب وقائي حتى لو فشلت في تحصيل تعويضات من إسرائيل أو استصدار إدانة بحقها. إذ إنها ستمثّل رادعاً عملياً لأي عدوان مستقبلي». هذه القناعة دفعت بمخيبر إلى إعداد ملف «يمثّل مضبطة اتهام قانونية متكاملة تصلح لتقديمها أمام المحكمة الجنائية الدولية، ما إن تتوافر إرادة جميع الأفرقاء السياسية»، سلّمه إلى رئيس المجلس النيابي. إلا أن التقرير لم يرفع حتى الآن للسلطة الإجرائية. لماذا؟ «لأننا ننتظر تكوين الحكومة مجموعتها القانونية التي من المفترض أن تتابع القضية، حتى نضع التقرير بتصرفها» كما يشرح مخيبر.
وبعيداً عن «الجسم الرسمي»، فإن هيئات وأحزاباً تعمل بدورها على ملف الدعوى. هكذا، يؤكد مصدر واسع الاطلاع على الملف في حزب الله «أن الحزب بدوره يقوم بمجهود من شأنه تحريك الدعوى».
يشرح د. محمد طي الباحث القانوني في المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق التابع لحزب الله، طبيعة المجهود، «يتابع المركز إعداد تقريره الخاص. وقد توصلنا لعقد محكمة الضمير في بلجيكا العام الماضي، فكانت بمثابة «بروفا» مجدية، إذ أدانت هيئة المحكمة إسرائيل، لكن قراراتها غير ملزمة، كما سنشارك الشهر المقبل في مؤتمر دعت إليه الشيخة موزة في قطر لبحث الوسيلة القانونية الأفضل للتقدم بالدعوى».
يضيف طي: «قد نعيد طرق باب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، رغم أنه سبق له أن ردّ الدعوى التي كان قد قدّمها تجمع الحقوقيين الأميركي، والتجمع اليهودي الفرنسي. كما أننا قد ندعم الأفراد الذين ينوون التقدم بدعاوى أمام محاكم وطنية، ضد قادة وسياسيين إسرائيليين أو حتى ضد شركات الأسلحة التي تزود الجيش الإسرائيلي، فهذه الدعاوى كلفتها أقل».