أحمد الزعتري
«بطيروا بهالسما طيايير، بالساقية بيسفروا شخاتير، وبإيديهن غمر وراق بيض وحمر ويلونوا هالعمر». تخطر لي أغنية فيروز وأنا أستمع إلى «الستّ» تمام. هكذا أخاطبها ولا أعلم إن كانت تحبّذ ذلك. أمازحها قليلاً عندما تتردّد في ذكر سنة ولادتها. أدخلُ المنزل لتستقبلني صديقتها، وتأتي «الستّ» لتجلس وسط حضور ثقيل للذكريات في اللوحات المعلّقة على جدران الصالون... وأحياناً كنت أشعر بحضور جليس ثالث هو... إسماعيل شمّوط، رفيق دربها الراحل وأحد روّاد الفنّ الفلسطيني.
يافا إذاً. الطفلة الشقيّة قامت بكل ما يلزم لتستحقّ قصاص أمها: نحتت اسمها على عمود الرخام في مدخل المنزل، سرقت أوراق تغليف البرتقال لتصنع منها أطباقاً ورقّية مزركشة، تقبّل يد «خوري» الكنيسة فقط لتحصل على أيقونات تعلِّقها على جدران غرفتها. كل ذلك كان يجده والدها مميّزاً، هو الميكانيكي الأميّ الذي يصلح أسلحة الثوار، وينحت من قطع الخشب بطّات يلقيها في نهر جريشة أمام عيني الطفلة الحالمتين. عندما خرجت يافا لاستقبال الشيخ أمين الحسيني، كان كل شيء يغري بالرسم: لافتات وفوانيس وسعف نخيل. رسمت بنت الـ 12عاماً كل ذلك فوجد الوالد «إبداع» ابنته مميّزاً وأطلع عليه الجميع.
لكنّ الذكريات لم تكن كلّها جميلة. تذكر تمام الأكحل مشهد خروج عائلتها من المنزل إلى ميناء يافا في الرابعة من صباح 28 نسيان (أبريل) 1948. حينها، كانت العصابات اليهوديّة قد بدأت تحرّكها، ولم تجد عائلة الأكحل بديلاً عن السفر. خرجوا في العتمة، وهي لا تسمع شيئاً إلّا وقع أقدامهم على الأرض، وتتساءل أين ذهب الجميع؟ عندما وصلوا إلى الميناء، رأت أهالي يافا وهم يقطعون تذاكر في أي باخرة شاغرة بغض النظر عن الوجهة. تلتقط مشهداً لن يفارق لوحاتها :أناس يلقون بأنفسهم في قوارب صغيرة تسمّى «الجرم»... ومن على باخرة «دولارس» اليونانيّة، سترى الأكحل القنابل تضرب يافا، وسترسمها في «يافا قبل التهجير».
حطّت الباخرة في بيروت، وسكنت العائلة في الطريق الجديدة، في بناية بعيدة لعائلة السمّاك لا يصلها الترامواي... واضطرت ابنة الثلاثة عشرة ربيعاً إلى العمل في مشغل تطريز. كانت البنت الشقيّة تشعر بالغيظ من تبجّح امرأة السمّاك ببنت شقيقها التي التحقت بكليّة المقاصد للبنات: «كنتُ منقطعة عن الدراسة، فقررت ركوب الترامواي بنقود أعطتني إياها أمي ونزلت على باب الكليّة». هناك التحقت الأكحل بالكليّة مجّاناً لأنها من يافا، فسكرتيرة الكليّة كانت مغرمة بشاب يافاويّ، والمديرة زاهية دوغان كانت متزوجة سعيد الصباغ ــــ واضع أول أطلس عربي ــــ اليافاويّ أيضاً.
أما المشهد الثاني الذي سيأسرها، فستراه في مخيم صبرا الذي كان يسمّى «مقبرة الداعوق». ذهبت تمام إلى هناك لتلتقي صديقتها، فاصطدمت بمشهد اللاجئين لأول مرة في حياتها: سيارة بخراطيم ترشّ الماء لمن حضر بأوعية الطبخ وعلب السمنة والزيت، سيارة أخرى توزّع الحليب بأوعية على الأطفال والنساء... ومن بعيد رأت صديقتها الحافية وهي تلحق بسيّارة توزيع الماء. ذلك اليوم، سرقت بودرة صبغ الملابس من والدتها، وعثرت على أغطية «كازوز» وملأتها بالبودرة الملوّنة، وقصت خصلة من شعرها ولفتّها على قلم لتصنع أول ريشة وترسم مشهد توزيع الحليب والماء. وبهاتين اللوحتين، شاركت الأكحل في معرض الخريف الذي أقامته الأونيسكو. يومذاك عرض عليها بعض الأجانب شراء كل لوحة بثلاثين ليرة فرفضت: «شعرت بأنّهم يريدون أن يشمت بنا العالم كأنّهم يقولون: انظروا ماذا فعلنا بالفلسطينيين». بعدذاك جاءت المصادفة التي حسمت خيارها امتهان الرسم: كان ذلك حين التقت الصبيّة مبعوثاً من شركة «لوكاس» الألمانيّة لترويج الألوان وورق الرسم، فدعاها إلى الانخراط في دورات للرسم. لفتت الصبيّة نظر معلميها، فأعطتها كليّة المقاصد منحة لدراسة الرسم في القاهرة أواخر عام 1953. ثم التقت مسؤول المنح الدراسية في الجامعة العربيّة مصطفى الغصين الذي قال لها: «نحن لا نساعد الفلسطينيين على دراسة 3 مجالات: الدراسات الإسلاميّة في الأزهر، الحقوق، والفنون». رغم ذلك، درست تمام في المعهد العالي لمعلمات الفنون في القاهرة، وطُلبَ منها أن تعرض لوحاتها إلى جانب شاب في سنة تخرّجه من كلية الفنون الجميلة اسمه اسماعيل شمّوط. وافقت على مضض شرط أن «تطّلع على مستواه». «عندما التقيتُه، وجدتُ شاباً خجولاً يتصبّب عرقاً، أسمر غزير الشعر والشوارب. كله على بعضه مُعتم. كنت معتادة شباب لبنان الحليقي الشوارب». عرضا لوحاتهما في معرض «اللاجئ الفلسطيني» الذي افتَتحه جمال عبد الناصر والأمين العام للجامعة العربيّة عبد الخالق حسّونة الذي قال لهما: «لقد وضعتما الحجر الأساسيّ للقضيّة الفلسطينية»... ثم التفت إليهما مجدداً وأضاف: «ما تتجوزوش بعض ليه يا عيال؟». وهكذا كان في 1959، وذلك بعد نصيحة الشاعرة فدوى طوقان لشمّوط في قصيدة «الوهم» أن لا مناص من مواجهة حبّك لتمام.
بيروت مرة أخرى: إلى جانب الحبّ، كان الفن مشتعلاً في بيت الزوجيّة. همه الأول تأريخ الملحمة الفلسطينيّة: «كان إسماعيل يقول لي دائماً فلسطين هي الطائر ونحن جناحاها». وفي 1964، سيواجهان لأول مرة اللوبي اليهودي خلال معرضهما في جامعة فيلادلفيا. عميد الجامعة سيقول: «30 عاماً ونحن نسمعكم، لنسمع الطرف الآخر الآن» ولن تنجح محاولات رئيس اتحاد الطلبة الفلسطينيين هناك نبيل شعث في إنجاح المعرض. إذ اصطفّ طلبة ذلك اللوبي مقابل مكان المعرض حاملين لافتات كتب عليها أن المعرض تأجّل.
تتوالى الأحداث، وتتكاثر المقابر والمجازر، ويتابع الفنانان المسيرة الإبداعيّة على الطريق الشائكة. بعد مجرزة صبرا وشاتيلا، مرض شمّوط وأُرسل للعلاج في ألمانيا، لتتبعه الأكحل في 1983، ثم ذهبا إلى الكويت قبل أن يستقرا في عمّان حيث رحل عن هذا العالم عام 2006.
هل فعلاً منعها إحساسها بمسؤوليّة تجاه القضيّة من الاتجاه نحو مدارس فنيّة أخرى؟ «كنتُ قد بدأتُ بالاتجاه نحو تجارب طليعيّة وحديثة لكن تلك القوالب لم تكن تتّسع لما أريد نقله. همّي الأساسي التعبير عن المجزرة». أحداث غزّة الأخيرة انتزعت الأكحل من مشاغلها التجريبيّة، فعادت إلى فجاجة الواقع واللغة المباشرة. ترينا لوحة جديدة بعنوان «الفيتو الأميركيّ». لا مبالغة ولا ترف فني في العمل: أشلاء آدميّة وسنبلتا الأمم المتحدة محترقتان، ولا ضوء ينير المشهد إلا القنابل.
تمام الأكحل تواصل مسيرتها في عمّان وقد تفرّغت للفن، بعيداً عن وطنها وعلى مرمى حجر منه في آن واحد. في عام 1997 زارت يافا، لكن المستوطنة الإسرائيلية التي احتلّت منزل عائلتها وحولته إلى غاليري منعتها من الدخول. في العام الماضي فقط، تمكّن ابنها بلال من دخول البيت، واتصّل بها من غرفتها. سألته عن عمود الرخام الذي حفرت عليه اسمها، فلم يجد له أثراً. لقد سرقوا البيت، لكنّه ما زال يحتفظ بأسراره.


5 تواريخ

1935
الولادة في يافا (فلسطين)

1953
حصلت على منحة من كلية المقاصد في بيروت، حيث التجأت العائلة بعد النكبة، لدراسة الفنون في القاهرة. وهناك التقت إسماعيل شمّوط وتزوجا عام 1959

1964
اللوبي الصهيوني في جامعة فيلادلفيا في أميركا، يمنع الناس من حضور معرض للأكحل وشمّوط

2006
رحيل رفيق الدرب والمنفى والإبداع

2009
العدوان على غزّة أعادها إلى الواقعيّة، فرسمت لوحة بعنوان «الفيتو الأميركي»