3 أطباء نرويجيين كانوا في غزة. أحدهم، البروفسور مادس غيلبرت، رأيتموه على الجزيرة الأحد الماضي، يبكي وهو يروي ما رآه هناك، طالباً من أهل غزة أن يصمدوا وأن يصبروا. أبكى الطبيب الجرّاح مراسل القناة، وأبكانا. داغفين بيوركليد، زميله، كان في بيروت منذ يومين بعد عودته منذ اثنين وعشرين يوماً من مكان تحوّل إلى جحيم للنوع الإنساني بكل المقاييس، جحيم رأيناه على الشاشات في بثّ مباشر
ضحى شمس
وجه الرجل الأبيض، المنفعل والمذهول لهول ما رآه، كان القطعة الناقصة في المشهد العام لمحنة غزة. كأن ملامح وجهه تجمدت على تعابير الصدمة لما شهده في الميدان، حيث الحقائق العارية، عارية فعلاً. حين خرج من «جهنم» ورفيقيه، قالوا الأمور كما هي: العصفور عصفور، والطفل طفل، والجريمة ضد الإنسانية جريمة ضد الإنسانية. هكذا، ببساطة، بدون حسابات الدول التي يحملون جنسياتها. ففي مهنتهم، دقة التشخيص أساسية. من الصعب أن تعطي الطبيب النرويجي عمراً. تزداد حيرتك حين يقول إنه كان في بيروت خلال الاجتياح، لكون منظمته تعمل هنا منذ عام 1975؟ هل هو أربعينيّ أم خمسينيّ؟ تتساءل وأنت تجلس في بهو الفندق، حيث وجدناه ينتظرنا لمقابلة قبيل مغادرته بساعتين إلى بلاده، التي سيعود منها إلى عمله في بيروت، منسّقاً لمنظمة «نورفاك» غير الحكومية.
تكاد الأسئلة تُختصر بطلب واحد: «اروِ لنا». يبدأ بجملة تصلح لاستهلال رواية: «كنت أمضي عطلة الأعياد في منزلي هنا، عندما وقعت الحرب في 27 كانون الأول». يرتشف قهوته بسرعة كالمتعجّل للدخول في الأساسي «عقدنا اجتماعاً هاتفياً طارئاً ثم قرّرنا الذهاب إلى غزة. ليس لدينا ممثلون في القطاع، ولكن لدينا برامج مع المستشفيات الحكومية. كان الواجب الأخلاقي ينادينا. كانت إسرائيل قد أخرجت كل الأجانب ووسائل الإعلام الأجنبية، ولم يبقَ سوى الوكالات المحلية. ساعدتنا سفارتنا في القاهرة كثيراً مع السلطات المصرية للسماح لنا بالدخول، وكنا الوحيدين الذين دخلنا». يضيف بيوركليد: «دخلت عبر رفح، وكنت العابر الوحيد للمعبر المفزع الذي كان خالياً تماماً. فإسرائيل كانت تقصفه باستمرار، حتى إنها، بعد 5 دقائق من مغادرتي لرفح، قصفت المعبر. كان قد سبقني شخصان فقط قبل 5 أيام. وعندما عبرت، توجهت مباشرةً إلى مستشفى الشفاء وأنا أقود سيارة إسعاف لأنها أكثر وسائل النقل أمناً. استغرق قطع الطريق الذي يأخذ عادةً ما بين 30 إلى 40 دقيقة، نحو 5 ساعات، لاضطرارنا إلى التوقّف بسبب القصف».
«مستشفى الشفاء هو الأكبر في غزّة، وبالطبع، لا يطبّق معايير مهنية اعتدناها، لكن كان فيه الحد الأدنى، وتدبّرنا أمرنا. لكن أكثر الأشياء تعقيداً، كان أنّ هناك فقط 12 سريراً للعناية الفائقة، بينما كنا بحاجة إلى 40 على الأقل، لأنه كان يصلنا يومياً ما بين 100 إلى 120 مصاباً».
يثبّت بيوركليد عينيه في عيون محدثيه وهو يقول بتأنّ «أود التأكيد أن 50 في المئة من المصابين، كانوا نساءً وأطفالاً». ثم يضيف «كانت الإصابات..كيف أصفها؟ رهيبة؟ مذهلة؟ كنت في مناطق حروب عديدة، لكنّها في غزة كانت أسوأ ما رأيت في حياتي، حتى أسوأ من لبنان. كنت مصدوماً من عدد الجرحى الهائل، كان أكبر من حرب لبنان، فالناس هنا كانوا يهربون باتجاه الداخل. أما في غزة، فالناس في حصار. كانوا هناك، ببساطة، يجلسون في بيوتهم وينتظرون أن تسقط عليهم القذائف. كان الأمر أشبه بوضعهم في قفص وقصف القفص».
يؤكد بيوركليد «أعتقد أن إسرائيل استخدمت غزة مختبراً لتجربة أسلحة فتّاكة جديدة. فالإصابات التي وصلتنا كانت من نوع جديد». تتذكر ما قاله غيلبرت على الجزيرة، من أن الإصابات تتطابق مع تلك التي تتسبب بها قنابل «الدايم» التي تتفاعل مع المواد المخدرة لتنفجر في جسد الجريح، وأن الجيل الجديد من هذه القنابل فيه يورانيوم مخصب ويسبب مرض السرطان، ويؤدي إلى وفاة المستهدف به بعد بضعة أشهر من إصابته.
يسخر بيوركليد من كلام وزيرة خارجية إسرائيل: «عندما أسمع (تسيبي) ليفني تقول إننا لا نستهدف المدنيين أقول هذا غير صحيح. لأن غالبية الإصابات كانت بين النساء والأطفال دون 18 عاماً». ينفي الطبيب أن يكون قد لاحظ نقصاً في المخدر لإجراء العمليات، مرجحاً أن السبب «لكونهم قد استخدموه استخداماً مقنّناً جداً». أما انقطاع التيار الكهربائي الذي شاهدنا تأثيره في مستشفيات أخرى على آلات التنفس للرضّع، فهو يقول عنه «بالطبع كانت الكهرباء التحدي الأكبر، إضافةً إلى المياه الصحية والوقود. لأسابيع كان المستشفى المكان الوحيد في غزة الذي تتوافر فيه كهرباء المولدات».
وهل حصل أن اضطروا إلى الخروج من المستشفى؟ ينفي الطبيب «قررنا منذ البداية التركيز على 3 نقاط: الاهتمام بالمرضى، توثيق مشاهداتنا، وتقديم الدعم المعنوي إلى زملائنا وعائلات المرضى. كانت هناك مخاطرة كبيرة في الخروج من المستشفى، وكنا نقوم بعمل أفضل داخله. الوقت الوحيد الذي خرجت فيه، كان من أجل المساعدة على نقل مريض إلى مستشفى ثان. لكنني، بعد وقف إطلاق النار، بدأت بالتجوال».
تسأله: هل أنت مستعد للشهادة؟ يجيب فوراً: طبعاً، هناك نقطة مهمة جداً، لقد كنا الشهود الوحيدين من الغرب. بالطبع كان هناك العديد من وكالات الأنباء الفلسطينية، لكن في الغرب سينظرون إلى الأمر على أنه في سياق الحملة الدعائية لحماس. حتى إن «فوكس نيوز» وصفت (زميله) الدكتور ناتس بأنه «طبيب الدعاية لدى حماس». لدينا الكثير من الصور، وكان علينا توثيق أي نوع من الإصابات عالجنا وشاهدنا، والتركيز على الأسلحة المحظورة التي استُخدمت، كالفوسفور الأبيض. لا يمكنك أخذ الدليل فقط من المعاينات العيادية، لذا أخذنا الصور، وعينات من الأنسجة المصابة لدى المرضى، لفحصها في مختبرات مستقلة. من وجهة نظري، هذه الاعتداءات غير قانونية بجميع الأحوال، لأنّه استُخدمت خلالها كل الأسلحة المحظورة ضدّ المدنييين «يقول، قبل أن ينهض في نهاية المقابلة، مصافحاً بحرارة رجلاً أدى واجبه الشجاع».