محمد زبيبلم يحصل في تاريخ الحكومات اللبنانية أن استدعت مناقشات مشروع موازنة عامّة كل هذه الجلسات، كما هي حال مشروع موازنة عام 2009. فهذا المشروع تنكبّ الحكومة على دراسته وإقرار موادّه مادة مادة منذ حوالى شهرين، علماً بأن أرقامه صيغت مرّتين، وبفوارق كبيرة، ولا يزال العمل جارياً لإخراج صيغة ثالثة. ومهما كانت الأسباب الكامنة وراء هذه المناقشات، فإنّها تمثّل سابقة «إيجابيّة» يجدر البناء عليها في السنوات اللاحقة، إذ إن إحدى الظواهر الاكثر سلبية التي كانت ترافق إقرار مشاريع الموازنات، هي غياب أي اهتمام على مستوى الطبقة السياسية، كما على مستوى الرأي العام. فسادت ثقافة لا تنظر الى الموازنة إلا باعتبارها جداول نفقات وواردات مالية، هي في الغالب بعيدة عن الواقع، غير شاملة، ولا تعكس الحاجات الفعلية.
لقد جرى تهميش الموازنة قصداً، كوسيلة من وسائل قتل السياسة... فالممسكون بالقرار لم يرغبوا أصلاً في إجراء أي تعديل أو إصلاح في النموذج القائم وأدواته، وعملوا، وما زالوا، على تسخير السياسات المالية والنقدية في خدمة استمرار هذا النموذج ومدّه بسبل العيش. لذلك، لا غرابة في أن تكون الموازنات منذ 15 عاماً أداةً قانونية مجرّدة تجنّد كل اللبنانيين (الفقراء قبل الأغنياء) في خدمة الدين العام (الفوائد)، وتخلو من أيّ مقاربة لمسائل التنمية وإعادة الإعمار والحماية الاجتماعية والنهوض بالاقتصاد الحقيقي... بمعنى أن الموازنات كلها، بما فيها مشروع الموازنة الحالي، أصبحت تعكس حاجات النموذج القائم على المحاصصة والريع والاستهلاك، وتقوم بالتالي بوظيفة عكسيّة لوظيفتها المفترضة، أي إعادة توزيع الثروة من الفقراء ومتوسّطي الحال والمنتجين الحقيقيّين الى أصحاب الثروات وأدواتهم في السلطة.
لم تبلغ المناقشات الحالية هذا الجانب، والصراع لا يزال يتمحور حول تناتش الحصص، فيغرق الوزراء في مطالعات تتركز على التعويضات «التوزيعية» وجدوى هذا المجلس أو ذاك الصندوق وينقسمون بين داع الى إقفال مجلس الجنوب وصندوق المهجرين وآخر يقول «عليّ وعلى أعدائي». فإمّا إبقاء الوضع كما هو، وإمّا إلغاء كل المجالس والصناديق والهيئات على قاعدة «كلنا يعني كلنا».
هذه المناقشات صحّية مع أنها لا تزال خارج الصحن.