وسيم نابلسي *في ظلّ الآراء المتضاربة والإرباكات التي يشعر بها القارئ غير المتخصص، ينبغي لتبسيط الأمور، أن يكون معلوماً أن مقاضاة الجرائم الدولية، يمكن أن تسلك ثلاثة سبل لا رابع لها:
أولاً: القضاء الدولي الجنائي المؤقت:
ويقصد به المحاكم التي يُنشئها مجلس الأمن الدولي لمقاضاة جرائم دولية ارتكبت في مكان وزمان محددين، أي في نزاع معين، كما في محكمتي يوغوسلافيا ورواندا. وعادة ما يجري استبعاد هذه الطريقة عند التفكير بمقاضاة إسرائيل بالنظر إلى الفيتو الأميركي المتوقع. غير أن هذا الاستبعاد ليس في محله. فما الضرر في دفع إدارة أوباما لاستخدام الفيتو مجدداً لحماية إسرائيل بعد جرائم كهذه نظراً لأثر ذلك على الرأي العام الدولي؟ وما الضرر في الاستماع إلى رأي المندوب الفرنسي لدى مجلس الأمن قبل التصويت على مشروع القرار؟
ثانياً: القضاء الدولي الجنائي الدائم: ويقصد به محكمة روما أو ما بات يعرف بمحكمة لاهاي. وهذه التسمية الأخيرة كانت مربكة كثيراً لغير المتخصصين نظراً لما تؤدي إليه من خلط بين المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. فالمحكمتان مقرهما في لاهاي. لذلك لا بد من توضيح أن لا اختصاص جنائياً لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، وأن المقصود حتماً هو المحكمة الجنائية الدولية.
وهذه المحكمة قد أنشئت بموجب معاهدة روما. وهذه النقطة مهمة جداً لإدراك أن هذه المحكمة ونظامها الأساسي لا يلزمان إلا الدول التي صادقت على المعاهدة. والاستثناء الوحيد في ذلك هو إحالة مجلس الأمن الدولي قضية ما إلى المحكمة. وبسبب حداثة هذا النظام، فقد وقع عدد كبير من الحقوقيين في فخ سوء الفهم، حيث، بمتابعة الموضوع في وسائل الإعلام، يمكن رصد الأخطاء الشائعة الآتية:
1ـــ الطلب إلى سلطة أبو مازن التصديق على نظام المحكمة حتى تتمكن السلطة من مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة. والعجيب في الموضوع أن السلطة الفلسطينية ليست دولة مستقلة معترفاً بها حتى يمكنها التصديق على النظام. والأعجب هو تناسي كون إسرائيل غير منضمة إلى النظام ولن تقبل بصلاحية المحكمة أصلاً.
2ـــ قراءة المادة 15 والفقرة ج من المادة 13 من النظام الأساسي مقتطعة من سياقها. وهي التي تتحدث عن صلاحية النائب العام لدى المحكمة في مباشرة التحقيقات من تلقاء نفسه. فيفترض البعض أن للنائب العام لدى المحكمة أن يباشر مثل هذه التحقيقات من تلقاء نفسه حتى لو لم تكن الدولة المرتكبة للجرائم موضوع التحقيق عضواً في النظام الأساسي للمحكمة. وهذا فهم مجتزأ، حيث إن هذا التفسير للمادتين 13 و15 يخالف روح النظام بوصفه معاهدة لا تلزم سوى من وقع عليها. وهو تفسير يتعارض مع عنوان المادة 13: «ممارسة الاختصاص» التي جاءت بعد المادة 12 المعنونة: «الشروط المسبقة لممارسة الاختصاص». وهذه الشروط المسبقة التي تتحدث عنها المادة 12 هي بالضبط شروط القبول بصلاحية المحكمة، إن كان عبر المصادقة والانضمام أو عبر القبول الخاص ومن خارج العضوية. فإذا لم تتوافر هذه الشروط مسبقاً فلا يمكن للمدعي العام أن يمارس صلاحياته هذه. وقد اندفع أحد الحقوقيين المتحمسين على شاشة «الجزيرة» إلى حد القول إن المدعي العام قد باشر تحقيقاته من تلقاء نفسه في ملف دارفور، ناسياً أن الملف كان قد أحاله أصلاً مجلس الأمن الدولي. 3ـــ التباكي على عدم انضمام الدول العربية إلى معاهدة روما وعلى الفرص الضائعة لمحاكمة جرائم إسرائيل بسبب عدم الانضمام. للأسف يتناسى أصحاب الطرح أن المهم أن يكون المجرم منضماً وليس الضحية. ويتناسون أيضاً كيف أن الدول العربية لم تشارك في المناقشات السابقة لإقرار النظام الأساسي ويطلب منها الانضمام الآن. فيما الولايات المتحدة قد وقعت على النظام وشاركت في النقاشات فارضة كل التعديلات الممكنة التي من شأنها حماية الدول الكبرى وتحويل المحكمة إلى سيف مسلط فوق رؤوس الدول الضعيفة، وبعد ذلك انسحبت من المعاهدة رافضة التصديق عليها!
لذلك، وفي ظل كون كل من المجرم والضحية غير خاضعين لنظام المحكمة، فلا مجال لاعتمادها في حالتنا الراهنة، اللهم إلا عبر تقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن يطلب إحالة الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية (كما في حالة دارفور) وعندها سيصحّ حتماً ما ورد في البند أولاً أعلاه لجهة الفيتو الأميركي.
ثالثاً: إعمال مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الوطني: وهذه هي الطريق الأمثل في رأينا لمحاسبة إسرائيل، وإن كان ذلك عبر القضاء الوطني لبعض الدول لا عبر القضاء الدولي الذي يثبت يوماً بعد آخر أنه قضاء القوي يسلطه على الضعيف. وهذا المبدأ قد ظهر نتيجة للجهود المبذولة في سبيل تمتين التعاون الدولي لمكافحة الجرائم الخطيرة التي من شأنها أن تمس الأمن العالمي والأمن الوطني لكل دولة على حد سواء. وهذه الجرائم المشمولة بالاختصاص العالمي قد تكون جرائم دولية كجرائم الحرب وسواها، وقد لا تكون (تهريب المخدرات، الإرهاب...). ومن ذلك مثلاً ما نصت عليه معاهدة جنيف الإنسانية لعام 1949 التي أقرت هذا المبدأ بالنسبة للجرائم الواردة فيها وألزمت كل دولة متعاقدة بأن تحاكم كل من يرتكب إحدى هذه الجرائم دون النظر إلى جنسيته.
وبما أن العديد من الدول الأوروبية (وغيرها) تعترف بمبدأ الاختصاص العالمي وقد ضمّنته في قوانينها، فبالإمكان اللجوء إلى القضاء الوطني في كل دولة من هذه الدول وإمطاره بعشرات الدعاوى التي من شأنها أن تمنع المسؤولين الإسرائيليين من زيارة هذه الدول بسبب الخوف من الاعتقال.
* محامٍ لبناني