أرضية فسيفساء من أجمل اللوحات في الشرق الأوسط. ذلك هو الاكتشاف الأثري الأهم للبعثة اللبنانية ـــ السورية العاملة في موقع سيروس، تل النبي هوري الواقع في شمال سوريا. ولكن الفسيفساء التي كانت تزين أرضية منزل روماني معرضة اليوم للسرقة
جوان فرشخ بجالي
كان أعضاء البعثة اللبنانية ــــــ السورية ينقبون في الجزء الجنوبي من التل الأثري الذي تزيد مساحته عن 75 هكتاراً حين أبلغوا أن محاولة سرقة حصلت خلال الليل على الجهة الشمالية من الموقع. فما كان من مديرة البعثة من الجانب اللبناني، الدكتورة جانين عبد المسيح، إلا أن توجهت إلى مكان السرقة مع زميلها من الجانب السوري شاكر شبيب. تقول عبد المسيح: «وصلنا إلى تلك النقطة لنعثر على فجوة محفورة في الأرض لا يزيد عمقها عن 30 سنتيمتراً، وقد ظهرت فيها قطعة فسيفساء. فنظفنا الأرضية لنرى أن القطعة مزينة ببعض الأشكال الهندسية. قررنا أن نحفر على مسافة قريبة منها لنرى إن كان هناك من امتداد للأرضية». وبدأت أعمال الحفر، وما هي إلا دقائق حتى ظهر أمام أعين المنقبين وجه رجل متقن الصنع رائع التفاصيل، ومحفوظ في حالة جيدة جداً. لم يصدق علماء الآثار أعينهم. فقطع الفسيفساء المزينة بالرسومات لأشخاص نادرة أصلاً، والعثور على تلك المصنوعة بهذا الإتقان هو اكتشاف أثري مهم جداً، قرروا غسل الفسيفساء بقليل بالماء لرؤية التفاصيل والتأكد منها، فإذا بالوجه ينظر لهم. إنها قطع فسيفساء تتميز بجمال قد يفوق تلك المكتشفة في موقع زوغما التركي التي اعتبرت حينها «بومباي الشرق».
اتخذت الدكتورة عبد المسيح قراراً بالتنقيب في موقع الفسيفساء وإظهارها. وبدأ الفريق العلمي بأكمله يعمل على التنقيب على تلك الرقعة التي امتدت مساحتها إلى عشرة أمتار. وخلال ساعات بان تحت مقابضهم هندسة بيت روماني ضخم، زينت أرضيته بقطع من الفسيفساء رائعة الجودة. وتصفها الدكتورة عبد المسيح قائلةً : «إنها تجسيد للفصول الأربعة. فعلى زوايا الفسيفساء صور كل شخص يرمز لأحد تلك الفصول، فهنا الصيف الذي يرمز له الشاب اليافع، وهناك الخريف الذي يصوره رجل ثان. وتفصل بين «تجسيد الفصول» رسومات لآلهة الرومان الذين يقف كيوبيد (إله الحب) بينهم، حاملاً بيده قوسه. الفسيفساء مصنوعة من الحجارة الصغيرة الزرقاء اللون التي تتماوج فيها ألوان الزهور المصورة بحجارة بيضاء وتتداخل مع الأشخاص الذين صورت وجوههم بأدق تفاصيلها. قطعة رائعة في الجمال. ولأنها مهمة جداً، قرر الفريق بالاشتراك مع المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا رفع قطعة الفسيفساء عن الموقع ووضعها في متحف حلب لكي لا تتعرض لأي عملية نهب.
لم تنته القصة هنا، فالمكتشفات في ذلك المنزل الروماني الفخم لم تتوقف على قطعة الفسيفساء تلك. فقد أظهرت الحفريات الأثرية أن هذه القطعة كانت تزين القاعة الوسطى، والغرف الملاصقة لها زينت أرضيتها هي أيضاً بالفسيفساء وجدرانها بالرسومات. وتؤكد عبد المسيح أن «بقايا الجدران لا تزال تحافظ على ألوانها الحمراء، وهناك رسومات لأرجل أشخاص». وهنا تجدر الإشارة إلى أن المنازل الرومانية الفخمة كانت تُزيّن جدرانها برسومات مستوحاة من الحياة اليومية أو من عالم الأساطير.
بعد العمل على ذلك المنزل، ومع اقتراب انتهاء موسم الحفريات، قررت عبد المسيح تغطية الآثار المكتشفة من فسيفساء وجدران المنزل بالأتربة لحفظها من عوامل الطبيعة وإبعاد الأنظار عنها. ولكن بالطبع ذلك لا يؤمن حماية الموقع، وخاصة أن المنطقة معروفة بالنسبة إلى لصوص الآثار على أنها «كنز لا يفنى». لذا، فقد أوكلت مهمات حماية الموقع إلى كل مراكز الشرطة والاستخبارات العاملة في المنطقة، وتجوب دورياتهم الموقع ليلاً ونهاراً. كما أن القطع المكتشفة صُورت ووُثقت ووُزّعت صورها على المراكز الحدودية وعلى الشرطة الدولية (الأنتربول). مما يعني إفشال أي عملية بيع كبيرة.
ولكن، يبقى الآن التحدي الأكبر وهو العثور على التمويل الضروري للمحافظة على المنزل الروماني والفسيفساء التي تزينه في مكانها أي على أعلى تل النبي هوري. وتقول عبد المسيح «إن الصعوبة الآن تكمن في المحافظة على الآثار في مكانها وتأهيل الموقع لاستقبال السياح». لذا فقد بدأت تتوجه إلى الجهات المختصة المانحة عالمياً، التي أبدت اهتماماً بالمشروع، ولكن عبد المسيح كانت تتمنى لو تستطيع أن تعثر على راعٍ أو ممول لبناني يشارك في هذه العملية، إذ إن الفريق لبناني، والتنقيبات تجري تحت اسم الجامعة اللبنانية.


حقل تدريب للجامعة اللبنانية في سورياوهنا تجدر الإشارة إلى أن موقع سيروس أو قوروش (المعروف حالياً باسم تل النبي هوري) عُرف تاريخياً باستراتيجية موقعه الجغرافي. فهو على الحدود الفاصلة بين الإمبراطوريات الشرقية والغربية، كما أنه مذكور في المراجع الإغريقية العائدة إلى 223 ق.م.، «فسيروس هي عند الحد الفاصل بين الإمبراطوريات الفارسية من جهة والإغريقية (السلوقية) والرومانية من جهة أخرى. مما يشرح استعمالها مركزاً عسكرياً ضخماً في الفترة الرومانية».
عمل البعثة الأولي كان يهدف إلى فهم طرق تطور الحياة والهندسة المعمارية والدفاعية على هذا الموقع عبر مر العصور. وتقول عبد المسيح «ما يميز سيروس أنها عاشت 1500 سنة دون انقطاع مركزاً حدودياً. فالسور الإغريقي هو الأقدم على الموقع، ولكن الرومان أعادوا استعماله وحوّروا وجهته، وخاصة أن جيوشهم بنت لنفسها معسكراً على الموقع وسوّرت المدينة، وبنت فيها ثاني أكبر مسرح روماني في سوريا. ومن بعدهم، أتى البيزنطيون ليحوّلوا المدينة إلى مركز شعائر دينية وتعبد وحج. وخاصة أنها أصبحت مركز أبرشية، وبنوا داخل جدرانها كاتدرائيات عدة وكنائس صغيرة. أما في العصر الإسلامي، فعادت سيروس إلى دورها العسكري وأطلق عليها اسم قوروش، شيدت فيها قلعة كبيرة، وحصّنت المدينة وتوسع العمران داخلها وبدأت تلعب دوراً تجارياً حتى القرن الثالث عشر الميلادي. حينها، ولسبب لا يزال غامضاً، هجرها سكانها فضاع مجدها الغابر، وأصبحت تابعة لقرية صغيرة تعيش على الزراعة.
أما اليوم، ومع الحفريات الأثرية، فقد بدأت سيروس تخبر قصة ماضيها، وبدأت آثارها تستفيق تحت معاول علماء الآثار ومسجاتهم. ولكن الطريق طويل لتأهيل الموقع وتحويله إلى موقع سياحي ومرفق اقتصادي للمنطقة... تلك الطريق يسلكها فريق الجامعة اللبنانية الذي يحتاج إلى الدعم المتواصل لإنهاء ما بدأ.