جواد الأسديكربلاء تترقب كربلاء تتوثب الخيول نافرةٌ تضرب الأراضي البور ضرباتٌ توقظ الحيَّ والميت إنه الحسين بن علي على ظهر جواده في الطريق إلى كربلاء والرايات تتبعه التنويريّون في العالم يعيدون كتابة الميثولوجيا والموروث الخاص بعاداتهم وطقوسهم وشخصيّاتهم، بروح تثويريّة، تأمّليّة، وعقلانيّة، تمنح هذا الموروث أو ذاك حداثة تعبيريّة لها دلالات مستقبليّة تُغني درجات الاتّصال بين المتلقّي (الجمهور الواسع) وتُثري حالات الجدل بما فيه الخلاف وكسر مسطرة النظرة المسبقة للوقائع التاريخيّة. فأوّل ما تحتاج إليه الشخصيّات المتّسمة بالبطولة والزاخرة بالتعاطف والانتماء الشعبي، هو مسافة عقلانيّة، تُردَم فيها النظرة الماضويّة الأصوليّة وتكسر معها حدّة العصبويّة التاريخيّة في التعامل مع الأحداث المأساويّة والتراجيديّة.
المخرج البريطاني المعروف بيتر بروك، مدّ يده إلى أحشاء التاريخ الميثولوجي الهندي، ليعيد تركيب الوقائع والرواية الخرافيّة الشعبيّة إلى تأسيسات واشتباكات نصيّة تعطي الموروث البطولي معاني ثريّة، حيث إنّ درجات المصادمة بين الذي أعاد تركيبه في بطولة الشخصيّات الهنديّة، ترك صدمة عارمة في الوعي الجماعي للجماهير الرازحة تحت طوفان عاطفي، ميلودرامي يريد أن يعيد تلك الشخصيّات وبطولاتها في الحروب إلى مردودات ضيّقة، يغلب عليها الهيجان العاطفي والمدّ البكائي ليحيلها على غريزيّة قطيع شامل من الناس الذين يفتقدون الوعي الجمالي والمعرفي لصيرورات إعادة كتابة التاريخ.
وبينما كنتُ أعيد التفكير في استعادة ميثولوجيا عاشوراء وشخصيّة الحسين التي تحوّلت إلى دلالة بطوليّة عارمة، انتابني خوف مريب، بين فكرة تجديد وانبعاث هذه الشخصيّة الفذّة في دفاعها عن الحقّ، وما تكتنزه الجموع الشعبيّة هنا وهناك من إرث غريزي ميلودرامي يجرّ وقائع شخصيّة الحسين وما يحيط بها من بطولات ملحميّة إلى قعر ندبي، ملحمي، جوهره اللطم وامتداده الخرافي للجموع هو الضرب بالسيوف وتجريح الجسد بالشفرات والسيوف التي تضرب الرؤوس، لدماءٍ تسيل في الشوارع لهدف فحولي، غريزي، عاطفي، استعراضي أكثر منه رغبة في تكوين احتفاليّة جماليّة، عقلانيّة وبصريّة، ونيّة تعطي لعاشوراء ألقاً حداثيّاً جديداً تمنحه روح ملحميّة دراميّة، ترتقي إلى تعبيريّة فنيّة يمكن أن تقدّم إلى العالم الشرقي أو الغربي ثمرة جماليّة وملحميّة جديدة، باعتبارها من إنجازات الإرث البطولي الدرامي التي لم يجد التاريخ لها مثيلاً إلا في صورة المسيح أو سبارتكوس أو في الملاحم الشيكسبيريّة والأفريقيّة واليونانيّة.
ومع أنّ شخصيّة الحسين على المنصّة العاشورائيّة مقارنةً ومقاربةً مع شخصيّات عالميّة ذات همّ بطولي تُعدّ هي الأكثر ارتقاءً، وتراجيديّة من حيث التصادم بينها وبين ما يحيط بها من إرث استبدادي وحشي، فإنّ هذه الشخصيّة بقيت أسيرة وسجينة التقاليد الشعبيّة العاشورائيّة التي تشهد في كلّ سنة انفجاراً عاطفيّاً، يعبّر عنه تعبيراً دينياً أحياناً وسياسياً في أحيان أخرى.
لكن البحوث الجديّة والجديدة والانشغال بإعادة ترميم الوعي الشعبي الخرافي الهيجاني، لم يجرِ عليهما أيّ تقدّم. وإنّ ما يجعل هذه الشخصيّة ذات الملامح المقدّسة التي تدفع الملايين من الشيعة إلى التعبير عن مكنونها في درجات إحساسها بالظلم التاريخي ما زال على حاله، يغلب عليه الاكتفاء بالتوجّع والضرب على الطبول وتدمير الجسد، بدلاً من التوغّل في روح وكيان هذا النموذج الاستثنائي والاستفادة من إعادة تقديمه، بشكل سينمائي أو مسرحي، يمنح الشخصيّة نفسها بعداً فلسفيّاً وجماليّاً، بحيث يجعل منها شخصيّة لكلّ الشعوب لا مأسورة أو مسجونة في الإرث الشعبي الميلودرامي السلبي.
أردْتُ ولو من زاوية الاختبار، أن أقترب من كتابة عاشوراء وشخصيّة الحسين على وجه التحديد بمقاربات هاملتيّة، تأمليّة، لا تطلب الموت القدري المبكّر، ولا تكون محكومة بإشارات وجمل وسياقات (معصومة) تكبّل هذه الطقوس وهذه الشخصيّة لتحوّلها إلى ضحيّة مرّة أخرى، وإلى فقدان القدرة على إعادة تجسيدها موضوعيّاً وجماليّاً بطريقة تجعل من نظارتها وعمقها وجمالها، روحاً حرّة غير مكبّلة، وغير مسجونة، لتمضي بعيداً نحو عالميّة أسطوريّة ملحميّة، تحوّلها إلى إرث العالم لا إرث الطائفة.
وبعيداً عن المقارنة بين فاوست وهاملت وماكبث وريتشارد الثالث وما تحمله هذه الشخصيّات من وقائع مركّبة، محكومة بغرائز السلطة التدميريّة، ومرفوعة إلى بحوث نقديّة متفاوتة المعايير والفهم، فإن كلّ العالم وما ينطوي عليه من نقد صدامي، أو جمالي، اتفق على أنّ شكسبير هو كاتب الحداثة التاريخيّة الملحميّة الذي استلهم تاريخ إنكلترا أحياناً ورموز وكودات وإشارات وملامح شخصيّات إنسانيّة أخرى، حوّلت الإرث الشيكسبيري إلى إرث عالمي. إذ إنّ كلّ مسارح العالم ظلّت تتغنّى بهاملت وتقدّمه بتفسيرات حداثيّة، تشكيليّة أحياناً وموسيقيّة أحياناً أخرى، لأنّ حريّة العقد المدني عند المفكّرين، وتقدّم الوعي الجماعي في دراجات استلهام التراث، أعادا وفَتحا الباب بقوّة على كتابة حرّة، غير مقيّدة لأبطال وملاحم، تحوّلا على منصّات العالم إلى جدل حرّ.
لكن وللأسف الشديد، لا يزال عدد كبير من الأصوليّين الذين يحتكمون إلى الفتاوى الدينيّة الارتجاليّة يُسهمون في قتل رموزهم التاريخيّة، ويفرّغون موروثهم الغنيّ، العالي الثراء إلى مصادمات فتاوى تُعيد إلى ظلاميّة راسخة، تجعل شخصيّة مثل شخصيّة الحسين وطقوساً مثل طقوس عاشوراء، مجرّد شوارع دمويّة لرؤوس حليقة وسيوف تلمع في سموات ملبّدة بالرماد والعويل والطبول والجوع، إلى التعبير بأعتى حالات الغرائز والعنف السلبي، الفاقد القدرة على إحياء الروح الداخليّة لشخصيّة الحسين وشخصيّات فذّة أخرى مثل مسلم بن عقيل، والعبّاس، وسكينة، وزينب، وعلي الأكبر، والقاسم، وعدد هائل من الأرواح الفائقة الغنى التي منحت أيّام عاشوراء ثراءً روحيّاً وملحميّاً يندر أن يُعثر عليه في ملاحم العالم.

* نص المحاضرة التي ألقاها المسرحي العراقي
مساء أمس في مؤتمر «عاشوراء: النصّ والوظيفة وإمكانات التعبير» في حارة حريك