كادت عشر سنوات تمضي على صدور قرار منع تجول الدراجات النارية في صيدا، الذي اتخذه عام 1999 محافظ الجنوب لدوافع أمنية. طبّق القرار بحزم، لكنه بقي مثار جدل بين السكان. بعضهم يرى فيه منقذاً من «الابتلاء» بتهور سائقيها، ومن التلوث السمعي، بينما يرى آخرون فيه ترجمة لعجز الأجهزة الأمنية عن التقاط المجرم، وهروباً إلى الأمام أدى بها إلى «نطح العجلة لما ما قدرت عالبقرة»
صيدا ــ خالد الغربي
عند نهر الأولي الذي يرسم الحدود الشمالية لمدينة صيدا، بينما يرسمها جنوباً نهر سينيق، يركن الطبيب محمد سعد دراجته النارية ويستدعي ونشاً من نوع «زحافة» كما يسمّى باللهجة العامية، لكي ينقل دراجته إلى الضفة الجنوبية من المدينة. هناك، عند نهر سينيق، يعود ويستلمها، لينطلق بها نحو قريته. ليس باستطاعة هذا الطبيب، ومثله العشرات من راكبي الدراجات وممتلكيها، تجاوز الخطوط الحمراء في صيدا، التي يتصدّر التجول بالدراجة النارية قائمتها. تجاوز يكلّف مرتكبه خطر التعرض للملاحقة القانونية، وقد يصل إلى حد إسقاط تهمة «الإرهاب» عليه. فقد كان قرار حظر تجول الدراجات النارية قد اتخذ في صيدا منذ عام 1999، وسوّغ يومها بضرورات أمنية، بعدما فتكت بالمدينة دوامة من العنف والاغتيالات والتفجيرات، من بينها حادثة اغتيال القضاة الأربعة واغتيال الدركيّين والتفجيرات التي طالت بعض المحال والقتل الذي تعرّض له بعض بائعي «الخمور» في الرميلة.
لتسويغ قراره، انطلق «المطبخ الأمني» يومها من احتمالية أن يكون الإرهابيون الذين قاموا بمثل هذه الاعتداءات قد استخدموا الدراجات النارية في أكثر من حالة، لتوفيرها سرعة الفرار ولما تتيحه لراكبها من اختراق التدابير والحواجز الأمنية، خلافاً للسيارة وما تمثّله من صعوبة تنقل وحركة.

عقاب جماعي

هذا القرار، «التعسفي» كما أطلق عليه النائب أسامة سعد، الذي لم يكن في حينها نائباً بعد، دعاه للدعوة إلى المشاركة في أكثر من اعتصام احتجاجي، لبّاها الكثير من الصيداويين، ما دفع يومها بالسلطات إلى رفع قرار الحظر لفترة قصيرة على سبيل تنفيس الاحتقان الشعبي، رفع لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما عادت السلطات المعنية إلى تطبيق القرار بحذافيره، وإلى تجديده دورياً. أما من احتج يومها من الجهات السياسية والأفراد، فقد رأوا أن القوى الأمنية قد مارست، باتخاذها هذا القرار، عملية هروب إلى الأمام لتغطية عجزها عن اكتشاف المجرمين الفعليين، فعاقبت كل أصحاب الدراجات النارية ومستخدميها باستصدار قرار «همايوني»، وبفرض عقاب جماعي «ذهب نتيجته الصالح بجريرة الطالح» كما تردد من تعابير في حينها.
عقاب جماعي لم يقتصر على السكان، بل طال أيضاً أصحاب المؤسسات الصغيرة، إذ إنه أجبر مثلاً أصحاب المطاعم التي توفر خدمة التوصيل إلى المنازل، على الاستعاضة عن الدراجات النارية بسيارات وضعتها في الخدمة لتضمن استمرارية عملها، ما كلّفها أعباءً مالية إضافية.

بعد تسع سنوات

اليوم، وبعد مضي تسع سنوات على القرار، يعلق أحد الزملاء من الإعلاميين في صيدا على «الإشادة» التي تصدر عن مجلس الأمن الفرعي في الجنوب كلّما جدّد مفعول القرار قائلاً «اللي استحوا ماتوا. فمن المفترض أن يقرأ التجديد وكأنه إدانة متجددة لعجز المسؤولين الأمنيين»، بينما يرى كثر في المدينة أن الظروف الأمنية التي سوّغت له قد انتفت لاعتبارات متعددة. من بين هؤلاء أبو محمد المصطفى، الذي كان يستخدم دراجته النارية طيلة خمسة عشر عاماً كـ«ديلفري» لتوزيع الخبز على الأحياء، والذي يتساءل اليوم «بعدهم بيحكونا بالدواعي الأمنية؟ شو ذنبنا نحنا إذا هني فشلوا باكتشاف الفاعلين؟.
ثم إن الفلتان الأمني قد ضرب لبنان كله وصُفّيت قيادات في جميع المناطق، بينما أزالت السيارات المفخخة أحياء بأكملها، فضلاً عن الاشتباكات المسلحة التي دارت في بيروت والجبل والشمال».
بدوره، يعاني محمد حجازي نتيجة حرمانه من استخدام دراجته النارية، التي يستعيض عنها اليوم بواحدة هوائية لتوصيل طلبات المناقيش والفول إلى الزبائن. «ظالم ووحشي». هكذا يصف حجازي القرار، مشيراً إلى منحاه «الطبقي» كما يصفه قائلاً «لو كان القرار يتعلق بالأثرياء لما بقي سائداً ولو لساعة واحدة ولطار ولو طار البلد!»، وليشرح، مستخدماً المثل الشعبي «ما قدروا على البقرة نطحوا العجلة»، موجهاً اللوم للقيادات الصيداوية التي تقف، برأيه «عاجزة وغير مكترثة أمام نمو ظاهرة الشاطر اللي بدو، يبل إيدوه بصيدا، تحت حجة القانون».
وبما أن «مصائب قوم عند قوم فوائد»، فالقرار يلائم بعض الصيداويين، مثل منى الصباغ، ترحب به، لأنه يحقق لها شرط «عدم الإزعاج وإقلاق الراحة الذي يمارسه بعض الصبية ممن يتركون العنان لأصوات دراجاتهم، أو ما يمارسونه من «هرج ومرج ونط» أمام السيارات». فقلب منى ملسوع منذ أن دهست شاباً على الموتوسيكل قبل أعوام حين قفز أمامها بشكل بهلواني.
يشاطر مروان منى رأيها، لناحية الإزعاج و«الزعرنات» التي كان يقوم بها الطائشون، إلا أنه لا يجد، رغم ذلك، تبريراً منطقياً للـ«عقاب الجماعي الذي يقع على أهالي صيدا، حارماً من يحصّل رزقه باستخدام دراجته النارية من تحصيله، وخصوصا أن القرار جاء تلبية لظرف أمني استثنائي، ويجسّد تهرباً من المسؤولية وعجزاً عن مكافحة مرتكبي الأعمال الإرهابية فنال فقط من الفقراء اللي جسمهن لبّيس».
في هذه الأثناء، يمتطي علي دراجته المحمولة على «زحافة» يجوب بها شوارع صيدا، يلاعب الهواء شعره وهو يغني «ع هدير الزحافة اللي كانت ناقلتنا..».