خضر سلامةما زالت تصرّ، بلكنة فرنسية فاشية، على أن أول حضارةٍ كتبها الإنسان ولدت في أول قبّعة أوروبية. وأصرّ أنا على أن أوّل حضارةٍ هي تلك التي جبلها من الرمل طفلٌ عربي في ظل خيمةٍ سقطت من فم الله في يد نسيمٍ مسافرٍ بين بحر بيروت وجبل قاسيون وأبواب بغداد.. ثلاث قممٍ لدلتا التاريخ: كل ما ولد خارج هذا المثلث سراب.
اسمعي جيداً:
أول رسالة حب أظن كتبها شاعرٌ هاربٌ من رماح القبيلة في صحراء نعرف كيف نحيلها جنةً من نخيلٍ ومن كتابة حين تستيقظ رائحة اللون الأخضر في عروقنا كل صباح كما في أعلامنا. كتب إلى ليلى يخبرها أن العشق والموت سيّان في دفتر شفتيها. كلاهما لا توبة عنه، وأن الموت الساطع في عينيها الخائفتين من سوط أبيها يشبه الحبّ القادم من سيفٍ يمزق كبد فارس لا يخاف إلا من الوحدة. أول رسالة حبٍ لا بدّ كتبت بالعربية الفصحى، كفاتحةٍ لأي عملٍ قادم، كمقدمة لقصيدة تركها ميكوفسكي قبل موته، أو كشرحٍ مفصّلٍ لعمل من أعمال ريمبو، لا بدّ أنّ المؤرّخين اعتمدوها دليلاً حضارياً قاطعاً على أن بغداد أجمل امرأة، ولو اغتصبها هولاكو، وأن دجلة الخير سرير آمن لعاشقين يصنعان في الليل بياناً ثورياً غاضباً ضد أي ديكتاتورٍ يصادر الحبر والحب، وأن القصص الموزعة على حيطان الشوارع سلاح الأعزل في زمن الحرب.
وحين سرق بروميثيوس شعلة الحياة، أعتقد، استعار الآلهة من ريزون عاصمته وعقدوا في دمشق مؤتمرهم العاجل. على ضفاف بردى اخترعوا الأنثى الأولى، رسموها من كحلٍ عربيٍ فيه سر الليل، واختاروا ضفائر شعرها من ديوانٍ للمتنبي، ثم وضعوا في شفتيها خمرةً من عباءة أبي نواس.. أول أنثى لم تكن من ضلع آدم، بل كانت من ضلع ياسمينة صابرة متبسمة في أرض الدار، في أصابعها حكمة قوسٍ يعرف كيف يفتك بالقلب. عند أقدام قاسيون خرجت من رحم الأحزان أمّ لنا، وزّعت أبناءها في الحارات وعلّمتهم حياكة الأمجاد وفن الخنجر والبارود وعلوم القصائد، وسمّيناها وفاءً للتراب الذي يبدع في امتطاء الأرض: دمشق.
وفي بيروت، عقد شيخ طاعن في السن وفي الحكايات قران النخلة الأولى، والحب الأول والأنثى الأولى، على أول موجة صفعت وجه اليابسة لتقنعها بأن تثمر حرفاً، أو تثمر قنديلاً من العوسج. في بيروت يجمع الغرباء براعم الولادة في سلالٍ من مواعيد الرحيل المستمر إلى الربيع، ربيع بيروت والحرية، وتخيط الفراشات المقاهي والمرابع والساحات والجوامع والكنائس ثوب عرسٍ لموسم تزاوج الحضارات الذي يحضر كلما غنّت الشوارع أغنية كتبها في بيروت لبيروت، فدائيٌ من زمنٍ جميل، أو مناضلٌ يحتمي بفوضى الحروب المكررة.
بين بغداد ودمشق وبيروت، «أكزدر» يا عزيزتي. هويتي تتمدد كفتاةٍ سمراء بين المدن الثلاث، تبسط حسنها بساطاً لأرض واحدة، وتاريخ واحد، وسيوف وكتب واحدة. أسمعتِ بذاكرة الأماكن؟ برائحة الأماكن؟ بغضب الأماكن وحزنها وفرحها؟ بترابط مصيرها واتصال العناوين في خرائطها بمصير مشترك؟ يا عزيزتي، لولا مدني، لكانت الحضارة الإنسانية شبه خاوية إلا من عظام المادة. ولولا مدني الأطفال، لبقي الإنسان متعباً محروماً من مقاعد الدراسة، من ورود الحب الحمراء، ومن قصص الأبطال.
من هذه الهضاب والبراري والبوادي والصحارى الضاحكة، من الأبجدية الموغلة في النثر من ألفها الأخضر إلى يائها اليعربي، ترضع الحضارة.