نداء عوادقولوا ما شئتم، وناظروا كما يحلو لكم، فمَن انتصر انتصر، ومَن خسر خسر، ومات من مات واستشهد من استشهد. منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، ومنهم من انتصر، ومنهم من لا يؤمن بنصر إلهي أو شيطاني سواء. قولوا ما شئتم، فلكل حرب معتدٍ، منتصر، خاسر، مهزوم، مفجع، مجروح مقتول، محق، مؤمن بقتاله. لكل حرب أهلها وأبطالها، فحرب غزة كحرب تموز لم يكن أبطالها ممن غادروا بطائراتهم وأتقنوا مشاهدة التلفاز، ولا كانوا عرباً يعتبرون أنفسهم غير معنيين بها. أبطال هذه الحروب هم ممن قتل أو استشهد، جَرَحَ أو جُرِح، أسعَف أو أُسعِف. أبطالك أيتها الحروب هم ممن شعر بالألم من دويّ كل قنبلة نزلت على أرض فلسطين ولبنان، وأهلك أيتها الحروب هم من أحس بالعزة والكرامة مع خبر سقوط كل صهيوني بروحه وعتاده. قولوا ما شئتم، فأطفال غزة هم القتلى، وأهل غزة هم الجوعى، وهم من انتصر بدمه، بصدقه وبإيمانه بقضيته كما انتصرت دماء قانا ومروحين. كلهم أصحاب حق، فهم أسمى من أن يكتفوا بفتح معبر أو يكافأوا بنزع سلاح. فإلى حيفا وما بعد حيفا وصولاً إلى سديروت وعسقلان، صواريخ المقاومة واحدة، لأن الإرادة والعزيمة والروح والدم واحد. أطفال رفح كما أطفال ضاحية العز في بيروت، هم أبناء تلك الأرض المنكوبة الذين أصبحوا قصة في كتب التاريخ ورقماً في سجلات الموتى تؤرَّخ به نشرات الأخبار. إنهم على كل لسان، أسماؤهم ملأت صفحات الجرائد العربية والغربية وزيّنت دماؤهم أروع العبارات، فالكل يتحدث عن طفل ذُبح في حي الزيتون، عن كهل مات هنا أو عن حق سُلب هناك. الكلام وحده لا ينفع، ونشرة الأخبار تبقى نشرة أخبار، فالوقت للفعل لا للقول، فهناك في فلسطين كَلَّمَ الحجر المدفع ولقّن أطفال الانتفاضة درساً في الثورة لكل العالم ولكل العرب. وهنا في لبنان، انبرى مجاهدو وادي الحجير وسهل الخيام ليُظهروا للعالم من نحن وإلى أي صراع ذاهبون؟ من نحن وإلى أية مجموعة منتمون؟ من نحن وعن أي حق نحن مدافعون؟
نحن بحكم الطبيعة الثقافية والعرقية، لسنا أميركيين، لسنا فرنسيين ولن نكون أبداً إسرائيليين... نحن أبناء هذا الشرق منبع الحضارات وخزان الثقافات، تاريخنا، أرضنا وشعوبنا لم ولن تكون إلا شرقية القلب والقالب، فبناء ما سمّاه الغرب بإسرائيل على أرضنا فرض علينا حالة صراع ولّدت مهاجرين ومهجَّرين وجعلتنا أصحاب حق واضح لا تشوبه شائبة. فإسرائيل مرض، مكان قيامها وزمانه خطأ، شعبها ظالم وغريب عنّا، إنهم الغزاة الجدد والمستعمرون للأرض والخيرات، فلا بد من أن يرحلوا عنّا قبل ألا يجدوا لأبنائهم ولو موطئ قدم على أرضنا. قولوا ما شئتم، فالغرب هو من اعتدى وطغى، وأبواقه في منطقتنا ليست إلا مهزلة، فأبناء من كان حليفاً له لن يكونوا مستقبلاً إلا في رحاب مدرسة الوعي القومي الثائر بمعلميه من صلاح الدين ونصر الله. مدرسة علّمتنا أن احتلال الأرض العربية لن يكون نزهة للأشكيناز والسفارديم، مدرسة علّمتنا ألا نرى العراق الحالي إلا بلداً محتلاً، وأن أسود المقاومة في لبنان هم على حق وأن عقلانية الأمور ومنطقها يفرضان علينا قتال من أتانا غازياً.
قولوا ما شئتم، ففي شرقنا اليوم رياح النزعة الطائفية تكسر كل الثقافات لتفوز عليكم أوهام وأساطير الغرب الذي ما أراد يوماً لبلادنا خيراً، بل كان دائماً وما زال يعرّفنا عن نفسه معتدياً، منتدباً، ظالماً وراكباً للأساطيل.
قولوا ما شئتم، وادّعوا بأنكم أذكى البشر. ولكن هل تقدرون نكران مرض العرب بداء الخوف من الغطرسة والجبروت الأميركي الذي يمزق البلاد ليحوّلها حلبة صراع بالكاد أضحى العربي فيها مشاهداً... تباً لمستقبلكم إن لم تعوا اليوم، فما انتصر عليكم الغرب، إلا بالعلم والتنظيم وتفوّق عليكم بالصناعة والمال فقدِرَ بذلك على أن يكون الأقوى عسكرياً وجيوستراتيجياً. وإن لم تعوا أن عليكم أن تكونوا اليوم يداً واحدة من أجل حفظ ماء وجوهكم، وأنكم على الأقل ناس ترغبون بالعيش بكرامة لكم ولأولادكم، فلا أمل ولو بأبسط العيش.
أين الصناعة والمال والعلم من درب نراجيلكم المصطفة في حانات عواصمكم، بل أين هي الحضارة من عقاقير خمر يشتفها السائح راغباً رفقة الكثيرات ممن استوردتم من مومسات من كل بقاع الأرض؟
الحضارة لم ولن تكون إسمنتية المنشأ ولا فولكلورية المغزى، فالصناعة تنشأ في المصانع لا في الشوارع. قولوا ما شئتم، ولكن أمام كل ظلم وظالم يقف المخادع الضعيف وكذلك الرافض الثائر، ليبيّن للناس أن الحق يبقى حقاً والباطل باطلاً. وتأتي النظريات الجديدة من عالم الغرائب لتقول لنا وتُفهمنا أن الثقافات لوّنت فقط بلون العيش أو الموت وأضحى مستحيلاً علينا بناء عيشنا بكرامة وازدهار. لا تفكروا، فهناك من يفكر ويخطط، لا تعملوا فهناك من يعمل عنكم، لا تصنعوا فلديكم ولو لحين قدرة شرائية تغنيكم عن العمل والصناعة. إنها نظرية الموت البطيء، بل إنه استعمار جديد للعقول والخيرات، إنها حضارة البترول وماله السهل بل إنه انحطاط النفوس إلى ما دون أسفل الرؤوس. قولوا ما شئتم، فالحرب المقبلة لن تكون إلا مصيرية في الهوية والجغرافيا، فشرقنا لن يكون مزرعة للصهاينة، فلا مكان للضعفاء وفاقدي العزم، لا مكان لحلفاء من يريد لبلادنا شراً، شرقنا بمثقفيه ومقاوميه محكوم بأن يكون واحداً موحداً، شرقنا بصحفه وكتّابه لن يكون إلا القلب النابض لأمةٍ هي بأشد الحاجة للوعي، ولأنه شرق اختار أن يكون رافضاً مقاوماً شجاعاً، فخور بانتمائه إلى خط الأحرار. يراد لنا أن نبدو ضعفاء ولا حول لنا ولا قوة. فالقوة تكمن في تجهيز النفوس الطائرة التي تؤمن بأمتها كما أنها تكمن في اقتلاع ما في أجسادنا من ضعف وكره وشك وتآمر وغدر وسرقة وتعصّب.
قولوا ما شئتم، فالحرب أولها سلاح وآخرها كلمة، فمنّا من يستلّ سلاحه سيفاً، ومنّا من يستلّه قلماً. وقع الكلمات ومسار المفاوضات يكون أجدى نفعاً لشعوبنا عندما يوظف سلاحاً في خدمة الأمة والقضية. اقرنوا السلاح بكلمة الحق يكن لكم قوة، فلا تحرير لأرضٍ ولا عودة للاجئ إلا بالقوة.
القوة تكمن في غضب النفوس على ضيق شهواتها وفي إقامة تربية أخلاقية وثقافية للفرد تسمح له بأن يصبح مواطناً، فلا وطن من دون مواطن، لذا فإن تعليم الوطنية واجب وفرض عائلي وتربوي. الوطنية وسيلة وغاية للوصول إلى بناء مجتمع يشعر أفراده بالعدالة في توزيع الحقوق والخيرات. فخيراتنا هي ملك لأطفالنا، فكيف بها إن كانت ديوناً تتراكم على رؤوس البشر حجّة لبناء الحجر. فبكلمة واحدة ليس لها ثانية أقول: «اخشوا غضب أطفالكم منكم بسبب تقاعسكم واعملوا على ألا يكون لكم أرض أو حق مباح».