لم يطل الانتظار. فيما كانت الآمال معقودة والأفئدة مشرئبّة، عاجل أوباما الرأي العام العربي بصفعة مدوّية. أوضح أنّ موقفه لا يختلف البتّة عن موقف سلفه (الذي راقص شيوخ النفط وأمراءه قبل أشهر من نهاية ولايته، وانتظر الشجاع الأمير تركي الفيصل، المرشد الروحي والعملي لأسامة بن لادن، حتى نهاية عهد بوش ليوجّه له بعض الانتقادات في الصحافة الغربيّة). بدّد أوباما كل الأوهام. قال لمن يريد أن يفهم، إن إسرائيل وشعبها في باله، وأن شعب فلسطين بخس الثمن بالنسبة له
أسعد أبو خليل*
أثبت الرئيس الأميركي باراك أوباما إيمانه بمعايير الرجل الأبيض ـــــ وهو ممثّل للرجل الأبيض. وعيّن لهم جورج ميتشل مبعوثاً ـــــ وهو صهيوني ذو تاريخ عريق في خدمة اللوبي الصهيوني في واشنطن، رغم سعادة الإعلام اللبناني بالأصل اللبناني لوالدته ورغم تأكيد سمير عطا الله لاستطياب ميتشل المعجّنات الشرقيّة، مع أنه لم يعتبر نفسه يوماً لبنانياً أو عربيّاً. ثم إن فيليب حبيب كان من أصل لبناني، وكان صهيونيّاً هو الآخر وعرّاب ترشيح بشير الجميّل، السيّئ الذكر.
ولكن يبدو أن بثينة شعبان ورثت تحليل التذاكي من المحلل البعثي عماد فوزي الشعيبي. والأخير لمّاح: صرّح بعد صدور القرار 1559 بأن النص لا يتعلّق بالجيش السوري. أما بثينة شعبان (التي تستمرّ في الكتابة في جريدة الأمير سلمان لأنها لم تلاحظ توجّهات سياسة الجريدة نحو حكومتها وحتى نحو بلدها) فكتبت أخيراً مقالة حماسيّة عن تغييرات هائلة في سياسة أميركا في (ما قبل) عهد أوباما. ويبدو أن شعبان بدأت تنسى اللغة الإنكليزيّة إذ إنها أشارت إلى مقالة لروبرت ورث في الـ«نيويورك تايمز» عن كشّافة حزب الله واعتبرتها إشارة إلى تغيير (إيجابي) في النظرة الغربيّة ـــــ حتى الأميركيّة ـــــ إلى الحزب (وإلى العرب بصورة عامّة) مع أن المقالة كانت، لمن قرأها، معادية بالشكل والمضمون للحزب، وحماسيّة في نظرتها إلى ضرورة حماية إسرائيل من أي عداء، حتى لو كان لفظيّاً. وميشال سماحة ينتظر وصول الأسطول الروسي إلى شرق المتوسّط لإنعاش الحرب الباردة، ولإنعاش استراتيجيا النظام السوري في الانتظار الأبدي لتحديد «زمان المعركة ومكانها»، فيما يستعدّ النظام لمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ـــــ وإن عُلّقت ظرفيّاً ـــــ بعد نجاح منقطع النظير للمفاوضات غير المباشرة معه في فندق أو مطعم أو ملهى في تركيا. وجميل مروّة واثق من أن أوباما ضاق ذرعاً بالتعنّت الإسرائيلي.
وفريق 14 آذار لا يبدي قلقه ـــــ ليس علناً في أي حال. ونادر الحريري يتابع ملفّات السياسة الخارجيّة والداخليّة على حدّ سواء باهتمام بالغ وتحليل ثاقب وعقل راجح. وهرعت مي الشدياق إلى واشنطن لأخذ تطمينات عن استمرار أميركا في ولعها بسيادة لبنان، مثلما هرع سركيس نعّوم (هل يظن الأخير أن ترويجاته للسياسية السورية مُحِيت من الذاكرة؟) إلى هناك. والجميع يحجّ إلى جيفري فيلتمان (أو العزيز «جيف» كما يسميّه عليّة 14 آذار). و«جيف» ـــــ يقبر أمه ـــــ يتحدّث وكأنه ناطق رسمي باسم أوباما، وكأنه يعرف مسار سياسة أوباما الخارجيّة، أو كأنه من «فريق المطبخ» في شيكاغو. و«جيف» يُطمئِنهم إلى أن أوباما ـــــ ومن المشكوك فيه أنه اجتمع به أو أنه سيجتمع به ـــــ يتابع تفاصيل معركة المتن الانتخابيّة أولاً بأوّل، وأنه مع توحيد الأخوين المرّ في الانتخابات المُقبلة، وهو لا يمانع أبداً في إنشاء «الكتلة الوسطيّة» ـــــ مثله مثل البطريرك الماروني الذي يعارض تدخّل الدين في السياسية إلا إذا صدر عنه شخصيّاً. وجيف يتحدّث إلى وسائل الإعلام اللبنانيّة وكأنه مستشار أوباما المُعيّن لشؤون الأمن القومي واللبناني.
بداية، لنوضّح طبيعة «الرعاية» الأميركيّة للبنان منذ الحرب الأهليّة.
نستطيع أن نقسّم السياسة الأميركيّة نحو لبنان مرحلتيْن: مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة ومرحلة ما بعد الحرب، هذا إذا قبلنا أن الحرب توقّفت ليوم واحد في لبنان. في المرحلة التي سبقت الحرب الأهليّة كانت السياسة الأميركيّة نحو لبنان تتعاطى مع لبنان كبلد مستقل يُفيد إذا استخدم في الحرب الباردة. وكان استعداد فريق من اللبنانيّين للعب دور فعّال (إلى جانب محور الرجعيّة العربيّة (المُسمّاة معتدلة حفاظاً على سمعتها في أعين الناس) في محاربة الشيوعيّة موضع تقدير في واشنطن ـــــ البعض من كتّاب «النهار» نشط في تحبير كتيّبات ضد الشيوعيّة، و«دار النهار للنشر» كانت سبّاقة آنذاك في تقيّؤ الدعاية الأميركيّة ضد الشيوعيّة. والدور الأميركي في حرب 1958، وهي حرب من أجل آخرين لأن الشعب اللبناني هانئ بنظر غسّان تويني («المُنسِّق» السابق لمفاوضات 17 أيار)، كان مرتبطاً بأمور الحرب الباردة ومواجهة الشيوعيّة في الشرق الأوسط. لبنان كان قطعة في لعبة أكبر منه بكثير. لكن حسن ضيافة لبنان للاستخبارات الغربيّة (تُراجع الأوراق الخاصة لفريد شهاب الذي يبدو أنه كان فاتحاً فرعاً لاستخبارات أجنبيّة أثناء إدارته للأمن العام اللبناني، والغريب أنه بقي على إدارته للتجسّس ضد الشيوعيّة في لبنان ـــــ لوجه الرحمن طبعاً ـــــ حتى بعد تقاعده «الرسمي» عام 1958) جعل منه ساحة أو مسرحاً أو ملعباً أو مرتعاً لقوى خارجيّة استسهلت خرق القوى الداخليّة لسيادة البلد. ولم يكن فريق آخر من اللبنانيّين أقل مضيافيّة لاستخبارات عربيّة وشرقيّة طبعاً. وكلّما صرخ فريق لبناني مدافعاً عن السيادة، كان مذنباً أكثر من غيره في خرق تلك السيادة نفسها. تاريخ حزب الكتائب اللبنانيّة المُشين يشهد بذلك.
الهوس الأميركي بإسرائيل ومصالح احتلالاتها وتوّسعها وحروبها تبلور بعد حرب 1967، كما يظهر في كتاب ويليام كوانت الشهير. وفي دراسة للزميل جويل بينن (المؤرّخ الرصين للشيوعيّة المصريّة) عن تاريخ المساعدات الأميركية لإسرائيل يظهر بوضوح أن أمراً ما حصل في أواخر الستينيات. أصبحت إسرائيل شأناً أميركيّاً داخليّاً، وتأكدت الحكومة الأميركيّة من هشاشة المعسكر الرجعي العربي، وخصوصاً في زمن جمال عبد الناصر. وفي هذه السنوات، تحوّل لبنان إلى رديف أو ملحق صغير وهامشي لسياسة أميركا في دعم إسرائيل. وكان «الدعم» الأميركي للبنان مذاك دعماً تابعاً للدعم الأميركي لإسرائيل. أي من الممكن التخمين أن الطرف اللبناني الذي يلقى دعماً من أميركا، هو الطرف الأكثر خدمةً للمصالح الإسرائيليّة. قل إنها الصدفة ـــــ «صاءبت» يا محسنين ومحسنات.
وفي هذا الصدد، بدأت الولايات المتحدة بدعم قوي لميليشيات اليمين الفاشي في لبنان بعد اندلاع الحرب الأهليّة الضروس، وتلاقى ذلك مع مصلحة الحرب الباردة في محاربة الشيوعيّة. سارع النظام السعودي والأردني والأميركي إلى تمويل ميليشيات الكتائب والأحرار وتسليحها وتدريبها (دائماً يسارع النظام الأردني إلى تدريب ميلشيات إسرائيل وأميركا العربيّة، من نمور الأحرار إلى عصابات الصحوة في العراق إلى عصابات الدحلان في فلسطين). لكن صراعاً بدأ بالتبلور بين أجنحة ودوائر في الحكومة الأميركيّة. الاستخبارات الأميركيّة أرسلت فريقاً للمساهمة في إعانة الجميّل، وفيلكس رودريغز (خريج عمليّة خليج الخنازير الفاشلة والرجل الذي طارد تشي غيفارا في بوليفيا ومثّل بجثّته) حلّ في ربوع الأرز. لكن سفراء أميركا في لبنان أصبحوا منذ 1977 ينظرون لبشير الجميّل كـ«مجرم» و«أزعر» كما وصفه لي ذات يوم في الثمانينيات السفير الأميركي السابق في لبنان، ريتشارد باركر. الخارجيّة الأميركية نصحت بترك الجميّل، لكن إسرائيل، يساندها فريق يميني في واشنطن (تعزّز بعد صعود ريغان)، رفضت بشدّة، وإن اتفقت أميركا مع السعوديّة على تطويع الجميّل عربيّاً لجعله أكثر قابليّة إسلاميّاً. وهنا جاء دور صائب سلام (المؤيّد العربي العلني الوحيد، بالإضافة إلى أحمد الجار الله، لزيارة السادات إلى إسرائيل) في مباركة الجميّلبقية القصة باتت معروفة. سنوات إدارة أمين الجميل الوحشيّة (كيف يُسمح للجميّل بالوعظ والإرشاد؟) كانت بدعم وإشراف أميركي ـــــ إسرائيلي، مع أن الدبلوماسيّين الأميركيّين كانوا يسبغون في السرّ على الجميّل لقب «ترافولتا». وكل احتضان أميركي لفريق في لبنان يأتي بإيعاز من اللوبي الصهيوني. هو الذي كان وراء احتضان ميشال عون في حقبة، ثم عاد واحتضن فريق 14 آذار في حقبة تالية (قبل أن يحتضن رفيق الحريري سرّاً منذ 2001). وليس من الصدفة أن أكثر عتاة الليكود الأميركي المعروفين (والمعروفات) بعدائهم لكل ما هو عربي ومسلم، من أمثال إليوت أبرامز وإلينا روس لتنن وجون بولتون، هم الذين يمثّلون طليعة مناصري دعوة الفريق اللبناني المؤاتي لمصلحة الصهيونيّة. وذكرت الصحافة الإسرائيليّة في ربيع 2005 أن الحكومة الأميركيّة طالبت الحكومة الإسرائيليّة بالتوقّف عن الثناء العلني على فريق آل الحريري تحاشياً لإحراجهم. كان ذلك يوم كان السفير الإسرائيليفي الأمم المتحدة يفاخر بصنعه للقرار 1559، عاش لبنان.
لم ترتسم بعد معالم السياسة الخارجيّة لأوباما. هناك الكثير من الصلاحية للرئيس الأميركي في مجال السياسية الخارجيّة. وهنا مكمن التأثير. ريتشارد نيكسون كان يقول إن الرئاسة الأميركيّة لا تحتاج إلى رئيس في السياسة الداخليّة لأن الأخيرة تسيّر نفسها بنفسها. أما في مجال السياسة الخارجية، فهي «رئاسة امبراطوريّة» كما سمّاها أرون فلدوسكي، عالم السياسة المُتخصّص في شؤون السلطة التنفيذيّة. وقد عزّزت رئاسة بوش، بصورة تقترب من خرق الدستور وفق بعض الخبراء مثل فنست بغليوزي، صلاحيات الرئيس. لكن إدارة أوباما محكومة بعوامل عديدة مؤثرة في مجال السياسة الخارجية والأمن القومي بإزاء منطقة الشرق الأوسط.
أولاً، الهم الاقتصادي سيطغى على ما عداه (دون التقليل من أهميّة غطّاس خوري في رسم السياسة الخارجية لأميركا). والهم الاقتصادي يعني أموراً عدة بما فيها استحالة إقدام أوباما على حرب، إلا إذا تعرّضت أميركا أو حليفتها في أرض فلسطين لتهديد أو هجوم مباشر. أحلام فريق 14 آذار بحروب تحرير أميركيّة ضد سوريا و (أو) إيران تبخّرت. والهم الاقتصادي سيعجّل في إغلاق ملف حرب العراق، لا رأفة بشعبه بل بدافعي الضرائب هنا. والهم الاقتصادي سيؤثّر أيضاً في قدرة الولايات المتحدّة على إزعاج ـــــ هذا إن أرادت ـــــ أنظمة الخليج التسلّطيّة.
ثانياً، إن قدرة الولايات المتحدّة على شن حرب جديدة، تحت أية مسبّبات، ضئيلة جدّاً، لأن مغامرة بوش في العراق زادت سقف التهديد الذي يعتبره الأميركيّون مقبولاً كذريعة للحرب، زادته ارتفاعاً. أما إسرائيل فإنها ترى أن ضربة حجر من طفل فلسطيني تمثّل حجة مقبولة لشن حروب على أعدائها، وتقبل أميركا هذه الحجة من دون تردّد.
ثالثاً، إن طبيعة توزّع السلطات في أميركا تعطي الرئيس الحالي هامشاً من الاستقلاليّة في مبادرات السياسة الخارجية والدفاع، على ألا تؤدي تلك السياسات والمبادرات إلى خلل في الوضع الاقتصادي. والأولويّة للرئيس الطامح إلى ولاية ثانية ستكون في السياسة الداخلية، وخصوصاً في ظل وضع اقتصادي متدهور. الاستثناء الوحيد هو في رغبة أي رئيس بتحقيق نصر سهل في السياسة الخارجية لتعزيز الرصيد الانتخابي قبل معركة التجديد، وهذا ما حاول فعله جيمي كارتر في كامب ديفيد السيئة الذكر، وما فعله بوش في غزو العراق.
رابعاً، من الواضح أن أوباما لا ينوي الحكم من اليسار، وخصوصاً في السياسة الخارجيّة والأمن القومي. وتأليف فريقه للأمن القومي والسياسة الخارجيّة يعكس رغبة في العودة إلى ما يُسمّى هنا «توافق الحزبيْن» على السياسة الخارجية، كما كان الأمر في سياسة أميركا نحو الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة. وتعيين هيلاري كلينتون في منصب وزيرة الخارجية سيخيّب آمال الراغبين في تغيير جذري مقارنة مع عهد بوش، وخصوصاً أن هيلاري تعاملت مع السياسة الخارجية كهدف للاتفاق بين الحزبيْن. أما مستشار الأمن القومي، الجنرال جونز، فهو مرشّح جون مكّين.
خامساً، إن رصد مسار سياسات أوباما أو تخمينها في السياسة الخارجيّة يبقى عرضة لمتغيّرات مهما حاول «جيف» أن يخفّف مخاوف فريق 14 آذار، لأننا لا نعرف الكثير عن سياسات أوباما الخارجيّة لحداثة عهده بالتعاطي التنفيذي معها، كما أنه ليس معروفاً إذا كان أوباما سيفرض آراءه وتوجّهاته الشخصيّة على سياسات إدارته الخارجيّة. إن قراءة ما كُتب عن أوباما في أعوامه القصيرة في مجلس الشيوخ وفي إدارته لحملته الانتخابية على امتداد سنتيْن، يشير إلى أسلوب يعتمد على سماع كل الآراء قبل أن يحزم أمره ويقرّر ما يريد هو. وهو لا يعبّر عن رأيه الخاص إلا بعد أن يستنفد سماع آراء الآخرين. وأوباما وقبل كل شيء آخر، هو رجل سياسة، وقد يثبت أنه أقل مبدئيّة من بيل كلينتون نفسه.
سادساً، ليس معروفاً بعد الدور الذي سيلعبه نائب الرئيس جو بيدن، لكنه من المستعبد جداً أن يكرّر بيدن تجربة ديك تشيني في الاستحواذ على سلطة القرار. ويمكن الاستخلاص أن سلطة نائب الرئيس تزداد كلما كان الرئيس جاهلاً وكلما كان من النوع الذي يوزع سلطات القرار على مرؤوسيه. وقد صرّح بيدن أن شبه اتفاق قد حصل بينه وبين أوباما يتسلّم على أساسه بيدن ملف «وضع الطبقة الوسطى»، وهي الأساس في هم إعادة الانتخاب.
سابعاً، إن سلّم أولويّات السياسة الخارجيّة لأي رئيس تخضع غالباً لا لبرامج موضوعة بل لمفاجآت وتطوّرات لم تكن في الحسبان، وتصبح بالمتابعة اليوميّة من أولويّات الرئيس. لنتذكّر أن بوش ورايس جاءا إلى واشنطن عازميْن على إهمال منطقة الشرق الأوسط ـــــ ليتهما أهملا.
هذا لا يعني أن لبنان سيغيب كلياً عن بعض الخطب هنا وهناك. وينتشي فريق 14 آذار كلما تطرّق رئيس أو وزير إلى عبارة «ثورة الأرز». هم لا يعلمون ـــــ أو يعلمون ولا يرغبون بأن يعترفوا ـــــ أن الإشارة إلى لبنان تأتي دائماً في سياق الحديث عن المصالح الإسرائيليّة، وهذا ما عناه النائب في مجلس النواب (لا أدري لماذا تُحوّل وسائل الإعلام اللبنانية كل زائر أميركي من مجلس النواب إلى «سناتور»)، غاري أكرمان، الذي يمثّل دائرة «كوينز» في مدينة نيويورك، التي تمثّل بدورها أهواء قريبة من أهواء بنيامين نتانياهو) في كلامه أثناء زيارته الأخيرة للبنان. وأكرمان يمثّل عتاة كارهي العرب والمسلمين (والمسلمات ـــــ حتى لا نظلم كراهية روس ـــــ ليتنن المقيتة) في داخل الكونغرس الأميركي. وتطميناته عن لبنان هي تطمينات تتعلّق بإسرائيل أكثر مما تتعلق بلبنان، رغم إصرار نشرة المستقبل السلفي على أن إدارة أوباما لن تُقْدم على خطوة في السياسة الخارجيّة قبل أن تأخذ مشورة نادر الحريري.
وفريق اللوبي الصهيوني سيكون فاعلاً في الإدارة الجديدة، ودور اللوبي الصهيوني لا يتغيّر بين إدارة وأخرى، لكن الوجوه تتغيّر بين من يناصر الليكود ومن يناصر كاديما، وهلّم جرّاً. ومارتن إندك ودينيس روس وبروس رايدل سيكونون جزءاً من الفريق الصهيوني الفاعل في كل إدارة ديموقراطيّة. ما كان يُسمّى «المستعربين» سيبقى نائماً، كما باشر رسميّاً النوم منذ الثمانينيات. قد يكون السفير ريتشارد مورفي آخر مستعرب فاعل في الإدارة الأميركيّة ـــــ هل لا يزال مخايل ضاهر يذكره بالخير؟ خلفه في إدارة ملفات العالم العربي صهاينة متعصّبون لا يؤهلهم لتولّي المناصب إلا شدّة مناصرتهم للتوسّع والحروب الصهيونيّة. واهتمام مارتن إندك (مدير مركز صابان ـــــ والأخير إسرائيلي ـــــ بشؤون لبنان، واستضافته لزوّار من لبنان ـــــ من وليد جنبلاط إلى أحمد فتفت إلى الياس المرّ إلى نسيب لحّود ـــــ والأخير كان مشهوراً عندما كان سفيراً في واشنطن بأنه كان أكثر دفاعاً عن النظام السوري في أميركا من السفير السوري نفسه، لكنه «مُتجدِّد» و«ديموقراطي») ينبع من رعايته للفريق الذي يتواءم مع مصالح إسرائيل ويتوافق في العداء لأعداء إسرائيل (نفهم هذا العداء لفريق آل الحريري لحزب الله، ولكن ما هو سرّ عداء هذا الفريق لحماس، مثلاً؟ قد يكمن السبب في علمانيّة خالد ضاهر وفيصل المولوي، أو في حب التنوير الذي يرشد أتباع الوهابيّة).
إن إدارة أوباما ستأخذ بعضاً من الوقت قبل أن ينتهج أوباما أسلوباً خاصاً به. في الفترة الأولى من ولايته ستكون الأولويّة في الحفاظ على نوع من الاستقرار في المصالح الأميركيّة الامبراطوريّة من دون إحداث خلل إضافي في الوضع الاقتصادي العالمي. وستشهد الفترة الأولى الصراعات التي لا مفرّ منها بين مراكز القوى التقليديّة في صنع السياسة الخارجيّة: بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجيّة ووزارة الدفاع. ويمكن أن نزيد عليها مستشار أوباما القانوني، غريغ كريغ، لشدة اهتمامه بالسياسة الخارجية (وعمل في الثمانينيات مستشاراً في شؤون الدفاع والسياسة الخارجيّة للسناتور تيد كنيدي) ولقربه من أوباما بحكم لعبه دور المناظر الخصم أثناء تحضير أوباما للمناظرات مع جون ماكين أثناء الحملة الانتخابيّة. لكن أوباما سيكون المُقرِّر الأول والأخير، ولن يتخلّى عن صلاحيّة التقرير العظمى كما فعل بوش لمصلحة تشيني وفريق المحافظين الجدد.
قد يصبح فريق 14 آذار أكثر من يعلن الحداد على اندثار المحافظين الجدد. كان صعودهم فرصة لهم: ظنّوا وتمنّوا وحرّضوا (كما اعترف وليد جنبلاط) من أجل شن حروب أميركيّة تحريريّة إضافيّة. الصفحة الثانيّة من نشرة المستقبل السلفي كانت تنشر أخباراً دوريّة عن حرب أميركيّة على إيران، فيما الصفحة الأولى من النشرة عينها تحمل توقّعات الداعي الديموقراطي، عبد الحليم خدّام، بسقوط النظام السوري في غضون أسابيع. لكن جون بولتون حصل على درع الأرز، ويمكن أن يضمّها إلى ما كسب في سنوات خدمته من ميداليّات صهيونيّة ويمينيّة. وساسة لبنان يتكيّفون بسرعة مع التغيّرات، إذ إن النفاق السياسي السائد يسمح بتوزيع طريف للأدوار: ففيما كان وليد جنبلاط يجول أميركيّاً شاكراً بوش وتشيني وأبرامز لـ«دفاعهم عن لبنان»، كان وزيره غازي العريضي يصدر كتاباً عن إرهاب جورج بوش. وسعد الحريري وجّه رسالة إلى أوباما وضعه فيها «أمام مسؤوليّاته التاريخيّة»، كما ذكرت نشرة آل الحريري. ألا يكفي هذا؟
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)