في محترفه الواسع، ينشغل علي عيسى بتجهيز كتب ولوحات ينثر عليها بعض ألوانه، يُدخل في صناعتها بعض الخشب والنحاس، ويخطّ عليها حكمة إنسانية لا يستقيها إلا من الأدبيات الدينية، بتركيز لا يشتّته ضجيج أوتوستراد حارة حريك الذي يعجز عن سماعه
رنا حايك
أتم علي عيسى في معهد الفنون الجميلة تخصّصه في مجال الخط العربي، ليلتحق فور تخرّجه، عام 1977، بمجلة الأفكار، حيث عمل مخرجاً فنياً. «كانت تجربة حلوة» كما يصفها، استأنفها في فرنسا بعد الهجرة القسرية التي قام بها مع عائلته هرباً من أتون الحرب الأهلية اللبنانية.
ففي باريس، التي عرّفته أكثر على الفن كما يروي، عمل في شركات الإعلان والنشر، وفي الصحافة، فرسم في مجلة «كل العرب» وفي دار «المنشورات الشرقية»، وسرعان ما استغنى عن وظيفته المجدية مادياً فيها عام 1986 ليتفرّغ لإدارة محترفه الخاص، معرّضاً نفسه لتهمة الجنون التي وجّهتها له أخته إثر هذا التصرف المغامر.
لكنه قرار كان لا بد منه، يشرحه قائلاً «لم يعد العمل في الصحافة يشبعني روحياً، كنت أحتاج فعلاً للتفرغ للفن».
في تلك الفترة، قضى علي معظم ساعات نهاره منكبّاً على نبش المخطوطات العربية القديمة المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس، اطّلع عليها ودرس خطوطها ملياً ليشبع نهمه إلى الخط العربي، بينما تعرّف على الرسامين الأوروبيين وجال في اللوفر، ليكوّن رأياً فريداً لم يسبقه أحد إليه، في الفن الأوروبي، يعرضه قائلاً: «الطبيعة الحية موجودة، ما نفع إعادة استحضارها في اللوحة؟ والتجريد الذي تمارسه تلك الرسامة الباريسية التي دعتني لرؤية أعمالها في محترفها عبث لا طائل منه، وإلا فما معنى لوحتها البيضاء الضخمة المثقوبة القماش؟
فان غوغ صنعته المافيا اليهودية، ومونيه لم يصل إلى عمق الإنسان في لوحاته، أما بيكاسو، فهل يعقل أن يحوّل المرأة إلى مكعّب؟! أين الجمال في ذلك؟».
بالنسبة لعلي، لا يستقيم أي فن من دون «رسالة». فالعين تملّ بعد حين من اللوحة التي لا مضمون فكرياً لها. يجب قراءة اللوحة بالفكر، وهذا لا يتوافر إلا إذا احتوت على رسالة.
والرسالة الحقيقية «لا تُستقى إلا من أقوال الحكماء والفلاسفة. أما هؤلاء الحكماء، فهم من البشر، لذلك لا يؤخذ سوى بأقوال الرسل المعصومين منهم»، كما يشرح لنا.
يؤدي هذا الخط التحليلي في نهايته إلى حصر هدف الفن في «خدمة البشرية» وشكله في «خلفية ملونة لحكمة أو قول لا يكتمل الفن إلا بها». كما يؤكّد علي الذي يعمل، بحسب مفهومه الخاص عن الفن، على «تحويل الكلمة إلى لوحة ودمج الفكر بالفن لأنه سبيلنا الوحيد إلى العالمية». ولأن الهدف الأعلى هو خدمة البشرية وتعميم الرسالة الإنسانية، تحتلّ الترجمة الحيز الأهم في عمله.
«يرى الغرب أننا إرهابيون، وهي صورة يجب أن نكسرها من خلال تعميم حكمتنا ورسالتنا المسالمة. لذلك تتضمن جميع كتبي ولوحاتي ترجمة لكل جملة ترد فيها بالعربية إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية و.. اليابانية». أما لماذا اليابانية، فلأن علي يرى أن اليابان بلد لم يستعدِ العرب ولا مرة لذلك يجب التوجه إليه بالخطاب، كما أن تاريخه زاخر بحكمة تشبه إلى حد بعيد الحكم العربية، وشعبه ينجذب كثيراً إلى المشرق وحضارته.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات، أصدر علي ثلاثيته: علي، محمد ويسوع. وهي كتب طبعها على حسابه، بالإضافة إلى أخرى، في دار النشر التي يمتلكها «فكر وفن»، احتوت على أحاديث وآيات قرآنية وأقوال تتعلق بالشخصيات الدينية الثلاث.
أما اللوحات التي أنجزها وتكسو جدران محترفه، فتتنوّع بين حكم تفنّن في نحتها على خشب بعدما أدخل في إنجازها مواد مختلفة كالنحاس والرمل والصخر الطبيعي، أو في كتابتها بالخط العربي على ورق معتّق، بعدما لوّن خلفياتها ليدمج «الأصيل بالمعاصر» كما يقول.
والأصيل موجود في تلك الجمل فقط، منها جمل للمسيح مثل «الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها»، وحكم لعلي بن أبي طالب وردت في كتابه نهج البلاغة مثل «كفى بالقناعة ملكاً وبحسن الخلق نعيماً» أو «الناس أعداء ما جهلوا» وأحاديث نبوية مختلفة وآيات قرآنية.
يعشق علي عيسى أهل البيت، وخصوصاً الإمام علي، الذي يعتبره «فيلسوفاً وإنساناً بالمعنى الكلي» لا يختلف أحد على حبه واحترامه فكراً وسلوكاً إنسانياً بصرف النظر عن انتمائه الديني والطائفي، «وإلا، لماذا يعشقه جورج جرداق مثلاً؟» كما يلفت، مضيفاً أن «هذا هو المخلّص الذي يجب العودة إلى تعاليمه لتحقيق العدل الإنساني». دعوة يبرّئها علي عيسى من أي شائبة طائفية، ويبرّرها بالغاية الإنسانية العامة، ما يفسّر مفهومه عن الفن والرسالة التي يحاول تقديمها من خلال ممارسته.
كان من الطبيعي، في ظل هذا التعريف الضيق للفن الذي يقدمه عيسى، ألا يلقى نتاجه رواجاً كبيراً في باريس «حيث يهتم الناس باللون أكثر من الحكمة المكتوبة» كما يشرح، إلا أنه رواج تحقّق بنجاح في لبنان الذي عاد إليه عام 1993 بعد نهاية الحرب.
لم يشعر علي بالانتماء يوماً في فرنسا، «اشتقت إلى كلمة صباح الخير بدل بونجور» كما يقول. انتماء لم تشعر به زوجته الجزائرية الفرنسية التي اصطحبها معه ثم لم تلبث أن انفصلت عنه وعادت إلى فرنسا «لعجزها عن التأقلم في لبنان». لا يلبث علي أن ينهي هذا المقطع من روايته لقصة حياته حتى تغمز زوجته منى: «لحسن حظي»، فيعقّب على تعليقها بضحكة يؤكد بعدها كم قدمت له هذه الزوجة من عون. «كانت سنداً لي. دراستها في الأدب العربي عزّزت انسجامنا وتعاوننا، وحساسيتها العالية تجعلها تحدس مزاجي».
أما هي، فبعدما «لفتها» جارها بالتزامه الفني والخلقي، ولعبت أخته، التي كانت صديقتها، دوراً في ارتباطهما، فتشير إلى تكاملهما، وتعترف له بالفضل في «تنمية نظرتها الفنية وحسها الجمالي» كما تقول. عملت معه في التدقيق اللغوي وتصحيح الكتب التي أصدراها، كما تعلمت معه تقنية تعتيق الورق.
مشوار تحتفظ ذاكرتها بجميله، رغم الصعاب التي مرا بها، وخصوصاً في المرحلة الأولى من ارتباطهما، حين كان علي قد فقد سمعه حديثاً إثر حادث السيارة الذي تعرّض له بعد عودته إلى لبنان عام 1993.
هذا الحادث الذي أفقد علي سمعه لم يكسبه المرارة، لأنه يؤمن بأن «الإنسان لا يبدع حقاً إلا إذا فقد شيئاً» كما يقول، مردفاً أنه أصبح مذ حينها يركّز أكثر على عمله، ويحافظ أكثر على هدوء أعصابه كما يشرح متندراً: «بهالبلد أحسن الواحد يكون ما بيسمع!».


هدايا رائجة