نوال العلي
رافيديا، نابلس 1967، فيضان بشري من الفلاحين هم حمولة شاحنات الجيش الإسرائيلي التي كانت تكبّ هناك. لم تكن سحر تعرف أنّ هناك فلسطينيين كهؤلاء لا يشبهون مجتمعها النابلسي المدني، رغم أنها ابنة الفرع الفقير من عائلة طوقان المتنفّذة والثرية... حقيقةٌ لم تحل بينها وبين تلقي تعليمها في مدارس راهبات الوردية في عمّان، حيث أرسلت للعيش في سكن داخلي.
رافيديا مرة أخرى، أول التحام للروائية سحر خليفة مع المجتمع الفلسطيني وتعرّفها إليه هناك. كانت مجرد زوجة تقليدية تعيسة تعيش وابنتيها مع زوج قاسٍ أجبرت على الاقتران به في سنٍ مبكرة. ألا تذكّرنا بشخصية «مذكرات امرأة غير واقعية»، حيث اقتصر عالمها كله على هذا الزوج والبنتين؟ ولشدة سذاجتها، اعتقدت سحر بأنّ العسكر المنتشر هو الجيش الجزائري أو ربما العراقي. كان أكثر من 100 ألف لاجئ من فلاحي القرى المهجرة ينامون في كروم رافيديا المحيطة بالمنازل ومنها منزل خليفة. بات النوم ليلاً مستحيلاً، فأصوات البكاء تختلط بشكوى الجوع وأصوات الدواب، وجه جديد لم تعهده سحر لنابلس الوادعة والبورجوازية.
لم يكن ممكناً ترك هؤلاء يتضورون جوعاً، خرجت سحر وجارتها ريموندا الطويل (حماة ياسر عرفات لاحقاً) نحو رئيس البلدية بهدف فتح مخازن الشؤون الاجتماعية، وجدوه محاطاً بالجنرالات الذين سخروا من المرأتين «وهل نحن هنا لإطعام الفلسطينيين؟». جادلتهم الطويل التي كانت تتحدث العبرية، ثم فتحت أبواب المخازن للمرأتين اللتين أخذتا على عاتقهما سلق البرغل للاجئين في براميل ضخمة.
اللاجئات ما كنّ ليساعدن المرأتين أبداً. أما الرجال، فكانوا يضربون النساء لإجبارهن على المساعدة. النساء الأخريات الأكثر تمدناً كن يتغامزن ويهمسن بأن خليفة التي ذهبت للمطالبة بدم للمصابين تسعى للفت نظر الجنود فقط. في وقت كانت فيه المجندات الإسرائيليات مزنرات بقنابلهن، ينزلن بالمظليات من سماء نابلس كأنهن كتيبة مغاوير لتسهيل دخول الرجال بالدبابات.
الكسل، العنف ضد المرأة، ضيق الأفق، تشويه الآخر، سمات ترى خليفة أنها تصف المجتمع الفلسطيني آنذاك، وتتساءل كيف كان يمكن لهذه الصفات أن تنتج مقاومة لاحتلال منظم. تستعيد سحر هنا ذكريات تلك الأيام، وتضحك على شرّ البلية: «قبل الاحتلال بيومين، جُمعنا في ساحة مدرسة، رجالاً ونساءً تحلّقنا حول ضابط كان يحمل مسدساً صغيراً، وكان يعلّمنا كيف يفككه، لن أنسى كيف كنا نحدّق جميعاً بانبهار إلى مسدسه».
منذ ذلك الوقت، وفي تلك الظروف، تراكم غضب هذه الكاتبة الآتية من وسط اجتماعي مشحون ضد المرأة، منذ كانت طفلة بين ثماني فتيات وصبي واحد. كل ما يحدث في الحياة حولها تناقضات في تناقضات، المعاناة الزوجية مستمرة مثل شريط يكرر نفسه، الكتب التي استمرت في قراءتها لم تكن مسليّة بل محرضة. وأخيراً بعد 13 عاماً، تمكنت من الخروج من دائرة القسوة وحصلت على طلاقها.
قد تبدو هذه التفاصيل شخصية، وربما هامشية، لكنّها ضروريّة إذا أردت أن تفهم كيف وصلت سحر إلى هذا البيت الهادئ فوق جبل يطل على عمّان لتتفرغ للكتابة والبحث. تتحدث معك كأنها صديقة عمر، تعتز بمظهرها الشاب وقد بلغت الـ 67 وتبرر ذلك بـ «فنّ عيش الحياة»، أمر لا يجيده كثيرون.
بعد انفصالها، أصدرت عملها الأول «لم نعد جواري لكم» الذي تعتبره أضعف إنتاجها، كتبته من دون تعليم أو ممارسة للكتابة قبلاً. وحين أُعلنت «بيرزيت» جامعةً عام 1972 اندفعت خليفة للالتحاق بها، حيث بدأت بإجراء دراسة ميدانية عن العمال في إسرائيل، عمل دفعها لكتابة رواية «الصبّار» (1975) وفيها تظهر نقاط ضعف المجتمع الفلسطيني التي تحول بينه وبين المقاومة «المخططة والطويلة النفس».
هذا الضعف بات زاداً لأعمال خليفة الروائية، خصوصاً المشاكل الاجتماعية والتمييز ضد المرأة، اتجاه هاجمها عليه الجميع، حتى اليساريّون في حركات المقاومة، «كان النقد ساخراً قاسياً وجارحاً» ربما لم يكن الوقت مناسباً لقضايا المرأة آنذاك. لم تنتظم خليفة في أي حركة مقاومة، رغم أنها كانت تعتقد أن التنظيم هو أفضل تعبير عن الانتماء الوطني، وكانت تبطن داخلها إحساساً بالتقصير لأنها لم تفعل، ولكنها الآن ترى المسألة بطريقة مختلفة، «كنا نحن المثقفين غير المنظمين مثل منطقة عازلة بين اصطدامات الآخرين المنظمين، كان هذا قبل تنامي حماس بهذه الطريقة».
في 1978 توجهت خليفة إلى الولايات المتحدة، بدعوة من برنامج جامعة «أيوا» لاستضافة الكتاب، مكثت هناك أربعة شهور، وأصدرت في 1980 «عباد الشمس» ثم حصلت على منحة للدراسة في جامعة CHAPPEL HILL في نورث كاليفورنيا، لتمضي سبعة أعوام في إتمام دراساتها العليا في الأدب الإنكليزي.
في تلك السنوات حتى عودتها إلى فلسطين، كتبت «مذكرات امرأة غير واقعية» (1986) رواية جمعت فيها بين ضرورة الوعي بالقضية النسوية والوعي السياسي، مسألة نفذتها خليفة على أرض الواقع، فما إن وصلت نابلس (1988) حتى أنشأت «مركز شؤون المرأة» وبدأت تنفيذ مشروعها في تنمية المرأة الفلسطينية. لكنها اكتشفت أنها تزيد الأمور سوءاً بالعمل على توعية المرأة دون الرجل الذي تصفه، مازحة، بأنّه «قليل ترباية»، «أقصد أن النظام التعليمي والتربوي المتهتك من الداخل أنتج هذا الرجل». لذلك غيّرت خليفة المركز إلى «مركز شؤون المرأة والأسرة» وصار الرجل يدعى إلى البرامج المنفذة مثله مثل المرأة. ورغم ضغط العمل الميداني، استمرت خليفة في إصدار أعمالها «باب الساحة» (1990) عن الانتفاضة الأولى، «الميراث» (1997) تدور أحداثها حول اتفاقية أوسلو ثم «صورة وأيقونة»، و«ربيع حار».
لكن ماذا حدث لـ«مركز شؤون المرأة والأسرة» بعد 15 عاماً من الكد؟ لا تبدو خليفة متفائلة، «حماس» عقدت الأمور، «كسروا ضهرنا» تقول. كلما اشتغل المركز بالتوعية على مجموعة فتيات «متل الحبق»، وقفت لعنة الزواج المبكر وغيرت طريقهن نحو الخضوع لنظام اجتماعي مغلق وديني مهيمن تعزّزه حماس. أما الفقر والبطالة وغياب السلطة، فعوامل إضافيّة تزيد من تردي وضع المرأة في فلسطين.
سحر خليفة، النسوية حتى العظم، تركت كل ذلك. تريد الآن أن تكتب فقط، عزلتها منذ 2003 في عمّان، أنتجت «أصلٌ وفصل» وهي أول رواية عن فترة لم تعشها، إذ تدور أحداثها حول إضراب الفلسطينين سنة 1936. وفيها استندت إلى مذكّرات من قاموا بالإضراب في تلك السنوات أكرم زعيتر، محمد دروزة، السكاكيني وغيرهم، إضافةً إلى كتابات المؤرخين الإسرائيليين الجدد. الرواية الآن من الأحداث البارزة في معرض بيروت للكتاب (دار الآداب).
من يطلع على أعمالها المترجمة إلى لغات كثيرة بينها العبرية، يجد نفسه أمام بانوراما حيّة اجتماعية وسياسية وتشريح للطبقات والوضع الداخلي في فلسطين. فهي تشتغل كباحثة أولاً، تجمع المعلومات ثم يبدأ العمل الروائي بقيمه الجمالية الإبداعية، ذلك أنها لا تؤمن بشيء اسمه «الفن للفن» هذه «رفاهية ليست ممكنة لمجتمعات محتلة وبائسة تعيش تحت نظم تعسفية مثل مجتمعاتنا».


5 تواريخ

1941
الولادة في نابلس
1972
الالتحاق بجامعة بيرزيت ثم إصدار أول رواية «لم نعد جواري لكم» عام 1974
1980
السفر إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراستها في قضايا المرأة
1988
العودة إلى نابلس وتأسيس «مركز شؤون المرأة والأسرة»
2008
إصدار روايتها الجديدة «أصلٌ وفصل» (دار الآداب)