شكّل الإصلاح القضائي بعد الطائف مادّة للنقاش بين أهل الاختصاص في فندق البريستول يوم الجمعة الماضي، بعدما ظلّ هذا الموضوع عصياً لفترة طويلة على مشاركة القضاة. كسر عدد من القضاة صمتهم بشأن الخلل في استقلالية جهازهم، وهنا نص المداخلة التي ألقتها القاضية غادة عون في ندوة البريستول
غادة عون*
إنّ علاقة السلطتين التنفيذية والقضائية تطرح في كل المجتمعات إشكاليات معقدة نتيجة اتجاه السلطة التنفيذية القابضة على مقدرات الدولة، إلى استعمال القضاء أداةً لحماية مصالحها وترسيخ حكمها، حتى يكاد يصح القول الوارد في دراسة المحامي نزار صاغية إن «صون هيبة القضاء أصبح مجرد شعار تتوارى خلفه هيبة كل ذي سلطة». إن أعرق الديموقراطيات في العالم، عانت من تهميش القضاء ومن محاولة السلطة التنفيذية التأثير عليه والتدخل في شؤونه. لكن الفرق بينها وبين ما حصل ويحصل عندنا أنّ القضاة في هذه الدول، لم يلتزموا الصمت، بل احتفظوا بحق الممانعة إزاء محاولات القمع والهيمنة، فتضامنوا وتجمعوا وثابروا على الدفاع عن استقلاليتهم التي بانتفائها ينتفي مبرّر وجودهم.
ويقول أحد القضاة الإيطاليين، فرانشيسكو بوريللي في وصفه لمقاومة القضاء الإيطالي لتدخلات السلطة الإجرائية في شؤونه، إن القضاة في إيطاليا وقفوا سدّاً منيعاً كما وقف سد نهر بياف أمام الجيوش النمساوية عام 1917، التي اندحرت بوجهه وبوجه دفاع الجيش الإيطالي.
لكن لا بد من الملاحظة هنا أن القضاء الإيطالي وبخلاف ما هو حاصل في لبنان وفرنسا، يتمتع باستقلالية تامة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية؛ فمجلس القضاء الأعلى الإيطالي منتخب من القضاة بكامل أعضائه، وقضاة النيابة العامة لا يرتبطون تسلسلياً بوزير العدل ولا يخضعون لسلطة المدعي العام، بل يتمتعون بالاستقلالية نفسها التي يتمتع بها قضاة الحكم، فضلاً عن اعتماد مبدأ الصفة الإلزامية للملاحقة، وهو ما مكّن القضاء الإيطالي من مواجهة أشرس عصابات المافيا ومن دكّ حصون الفساد في السلطة.
وهكذا رفض القضاة الإيطاليين الصمت والإذعان وقاوموا محاولات السلطة لقمعهم وترهيبهم، بعدما تجرأوا على فتح آلاف ملفات الفساد العائدة لحكام أحزاب ورؤسائها في ما عرف بحملة «الأيادي النظيفة»، التي أدّت كما هو معروف إلى إطاحة زعيم الحزب الاشتراكي في عام 1992 بيتينو كراكسي.
هذا هو الصمت الذي رفضه أيضاً قضاة مصر حتى لا يكونوا شهود زور في تزوير انتخابات تولوا مهمة الإشراف عليها، وهو الصمت الذي رفضه أيضاً أروع القضاة في لبنان، الرئيس نسيب طربيه، فأبى أن يغمض العين عن تشكيلات غالباً ما تحولت بازاراً يُستفرَد فيه القاضي بهدف استتباعه. فكانت محاضرته الشهيرة التي كلفته الإحالة إلى المجلس التأديبي. (نزار صاغية، مقاله المنشور في الأخبار، 24/11/2008).
هذا هو الصمت الذي رفضه أخيراً الرئيس رالف رياشي عندما فضّل الاستقالة من مجلس القضاء الأعلى على البقاء فيه حفاظاً على قسمه، بعدما استحال على هذا المجلس إجراء التشكيلات القضائية منذ أكثر من ثلاث سنوات، في وقت يجري فيه حرمان أكثر من مئة قاضٍ من ممارسة مهماتهم القضائية التي أولاهم إياها القانون والدستور بسبب تعطيل هذه التشكيلات.

مشاركة رأس السلطة الثالثة في الإصلاح القضائي

إنّ القاسم المشترك الأساسي بين هذه التحركات القضائية هو أن السلطة، بدل أن تحارب أسباب الفساد وتتحرى عنها، حاربت القضاة وقمعتهم، فسجن بعضهم في مصر، وحوربوا بشراسة في إيطاليا بهدف الحدّ من استقلاليتهم وتعديل القوانين الآيلة إلى ذلك، وتعرضوا في لبنان لشتى أنواع الترغيب والترهيب.
فإلى متى يجب أن نصمت؟ ألا يصبح الصمت خطيئة إزاء كل ما يتعرض له القضاء في لبنان من افتئات على حياده واستقلاليته، فتتعطل في كل مرة التشكيلات القضائية بسبب عدم توافق القوى السياسية الفاعلة على تقاسم الحصص، وأين وكيف بالله عليكم سنشهد قضاءً حراً مستقلاً إذا كانت الطبقة السياسية ما زالت تهيمن إلى هذا الحد على مصير القضاء وتشكيلاته؟
أيجوز أن يعطّل مرفق العدالة وتجمّد تشكيلات أكثر من ثلاثمئة قاضٍ منذ أكثر من ثلاث سنوات بحجة عدم وجود توافق سياسي، من دون أن يحرك أحدهم ساكناً، وأن يمنع فوق ذلك القضاة من الاحتجاج؟ هل يمكن أن يعامل قضاة يتولون أو سيتولون شؤون الحكم وتقرير مصائر الناس والعباد بهذه الطريقة؟ هل هناك تعذيب أشد إهانة وإيلاماً من التعذيب الذي يمنع الضحية من أن تعترض وتقول آخ!؟
وليس المقعدان الفارغان أمامكم لقاضيين كان يفترض أن يحاضرا في هذه الجلسة المخصصة لمناقشة دراسة عن الإصلاح القضائي إلا أصدق تعبير عما أقول.
فبموجب أي حق أو منطق تنتهك حقوق الإنسان بوجه القضاة، وهم المولجون حماية هذه الحقوق وصونها؟ أبالاستناد إلى ما يسمى بموجب التحفظ، ومن قال إنّ موجب التحفظ يعني كمّ الأفواه وحرمان القاضي من حقه المقدس كأي مواطن آخر في التعبير؟
نقرأ في المبادئ الأساسية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في ميلانو في عام 1985 ما يأتي: «يتمتع القضاة مثل غيرهم من المواطنين بحرية التعبير والمعتقد وتكوين الجمعيات والتجمع، مع التزامهم في ممارسة هذه الحقوق بالحفاظ على كرامة مناصبهم وعلى حياد القضاء واستقلاله».
وجاء في شرعة الأخلاقات القضائية التي أعدّتها لجنة من القضاة عام 2005 ما يأتي: «ما من شك في أن المغالاة والتزمّت يسيئان إلى الغاية المثلى المتوخاة من وراء موجب التحفظ اللصيق بالعمل القضائي، وأن مواكبة التطور ومتطلبات الحياة المعاصرة تفرض تصوراً مرناً للمسألة، وأن بمستطاع القاضي الكتابة والتعليم والمساهمة في نشاطات تتعلق بالقانون وبشؤون التنظيم القضائي وبمفاهيم العدالة وفي كل موضوع لصيق، وفي كل نشاط آخر فكري أو ثقافي شريطة ألا يضرّ هذا النشاط بكرامة القضاء أو بممارسة المهمات
القضائية».
يستفاد من كل ما ذُكر أن موجب التحفظ لا يمكن في أية حال أن يتعارض مع حق القضاة في التعبير والتجمع للاهتمام بشؤونهم وبما يخص مرفق العدالة،
ومن قال إن الإصلاح وتعزيز استقلالية القاضي سيقدَّم لنا على طبق من فضة، فمن الراهن وفقاً لما تدل عليه التجارب أنّ الأمر يتطلب الكثير من التضحية والشجاعة والمثابرة والتضامن بوجه كل محاولات التبعية والاستغلال، وخاصة أن المحاولات السابقة قد أثبتت وفقاً لما بيّنه الأستاذ نزار صاغية في دراسته المشار إليها أعلاه، أنّ اتجاه أهل الحكم يسير نحو المزيد من تهميش دور القاضي العادي، كتعطيل المؤسسات القضائية وإخراج الدعاوى المتعلقة بمحاكمة الرؤساء والوزراء من صلاحياته عن طريق إنشاء ما يُعرف بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي يبدو ظاهرياً وكأنه يُخضع هؤلاء للمساءلة، فيما اتهام أي منهم يستوجب كما هو معروف ثلثي أعضاء مجلس النواب. الأمر الذي سيجعلهم عملياً بمنأى عن أية ملاحقة، ولنا مثال على ذلك في قضية المشتقات النفطية التي برّأ فيها المجلس النيابي رأس الهرم أي الوزير، فيما أصدرت أخيراً محكمة جنايات ييروت برئاسة القاضية هيلانة اسكندر وعضوية المستشارين حارث الياس وغادة أبو كروم، قراراً قضى بإدانة الموظفين اللذين كانا خاضعين لسلطة الوزير المذكور في الدعوى عينها، وبالاستناد إلى الوقائع ذاتها. لكن اللافت ما أوردته المحكمة في إحدى حيثيات قرارها من أنه «في حال وجود أي هدر أو اختلاس في الأموال العمومية، فإنّ المسؤولية عن ذلك تقع على من هم في رأس الهرم في وزارة النفط، ولا سيما الوزير شاهي برصوميان».
باختصار، يمكن القول إن مشاركة القاضي في عملية الإصلاح لن تحصل إلا إذا توافرت المناخات الآتية:
1ـــ العمل على بناء شخصية القاضي، لتعزيز مبادئ الاستقلالية والتجرد والحياد في ذهنه وتفكيره، أولاً في مرحلة التدرج في معهد الدروس القضائية، عن طريق إيلاء مادة الأخلاقيات القضائية الأهمية الأولى في تقييم القاضي المتدرج ومدى أهليته تبعاً لذلك لممارسة العمل القضائي، ولاحقاً عن طريق تعزيز المبادئ التي تقوم عليها هذه الأخلاقيات ونشرها، بتنظيم الندوات والمؤتمرات لهذه الغاية، وحث القضاة على الاشتراك الفاعل فيها. وأخيراً عن طريق إعلام القضاة بحيثيات قرارات الهيئة العليا للتأديب (من دون ذكر أية أسماء بالطبع)، لأن من شأن ذلك المساهمة في تحديد الأطر والمدلولات العملية والقانونية التي تقوم عليها آداب المهنة، وهو ما درج عليه القضاء الفرنسي أخيراً، مع إفساح المجال بالتأكيد لكل قاضٍ للتعليق على هذه القرارات سلباً أو إيجاباً.
باختصار، إن الكلام عن استقلالية المؤسسة القضائية لا يمكن إلا أن يترافق مع تعزيز منعة القاضي الذاتية وتحصينها. هذا القاضي الذي يرفض أن يطأطئ الرأس إلا لسلطان الحق والقانون، وإنني واثقة بأن أمثال هذا القاضي هم كثر في مجتمعنا.
2ـــ تعديل قانون القضاء العدلي وإقرار مبدأ انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى من القضاة مباشرة، وفقاً لما نصت عليه وثيقة الطائف تحقيقاً لاستقلالية فعلية للسلطة القضائية، وحتى لا نقع مجدداً في فخ القاضي «المستتبع» كما يقول الرئيس نسيب طربيه، وهو استتباع لا أدري إذا كان بالإمكان التحرر منه عندما يجري التعيين كما نشهده حالياً، على أساس المحاصصة السياسية والطائفية.
فإذا كنا نعتبر أنفسنا بالفعل دولة ديموقراطية تؤمن بالمؤسسات الدستورية وبمبدأ فصل السلطات، فلا بد من اعتماد مبدأ الانتخاب في اختيار أعضاء مجلس القضاء الأعلى وفقاً لما سارت عليه كل الديموقراطيات في العالم التي تؤمن بمبدأ استقلال القضاء وبسيادة القانون وبحقوق الإنسان.
مع الملاحظة أن تفسير مضمون الفقرة «ج» من وثيقة الطائف المتعلقة بالسلطة القضائية لا يمكن أن يحصل إلا وفقاً لروحية الدستور اللبناني الذي أرسى قواعد النظام الديموقراطي في لبنان القائم على مبدأ فصل السلطات واستقلالية السلطة القضائية، بحيث يقتضي اعتبار أن ما قصده واضعو الوثيقة المذكورة لجهة انتخاب عدد معين من أعضاء مجلس القضاء لا يمكن أن يعني إلا انتخاب الأعضاء التسعة المؤقتين، وخاصة أن قرارات هذا المجلس تتخذ في كثير من الأحيان بالأكثرية الموصوفة.
أما بالنسبة للآليات المعتمدة في الانتخاب، فهي قد تختلف بين دولة وأخرى. ففي فرنسا مثلاً، يتألف مجلس القضاء الأعلى من عشرين عضواً، من بينهم عشرة أعضاء منتخبون يمثلون مختلف المحاكم، بحيث تنتخب كل درجة من درجات المحاكمة ممثلها، مع العلم بأن القرارات داخل هذا لمجلس تتخذ بالأكثرية البسيطة مع إعطاء صوت مرجّح لرئيس الجمهورية الذي هو في الوقت عينه رئيس مجلس القضاء الأعلى. ولهذه الآلية ميزة أساسية أنها تقرّب المسافة ما بين الناخب والمرشح، الأمر الذي من شأنه أن يقلل من مخاطر الاصطفاف السياسي أو الطائفي الذي يمكن أن نخشى منه في
لبنان.
3ـــ اعتماد معايير موضوعية بحتة، في إجراء التشكيلات القضائية، مبنية على أسس النزاهة والخبرة والعلم بعد دراسة ملف كل قاضٍ.
4ـــ إقرار حق القضاة في التجمع وإنشاء الجمعيات. هذا الحق الذي أقرّته كل شرائع حقوق الإنسان في العالم كما سبقت الإشارة إليه، وقد ورد في هذا السياق في شرعة الأخلاقيات القضائية العالمية، المعروفة بشرعة «بنغالور» التي أعدّها في لاهاي الرؤساء الأوائل في أكثر من خمس عشرة دولة ما مفاده: إن للقاضي الحق مثله مثل أي مواطن آخر في التعبير والتجمع شرط أن يحافظ على حياده واستقلاله وعلى كرامة الوظيفة القضائية:
comme tous les autres citoyens le juge dispose de la liberté d expression, de croyance, d association et de réunion, mais dans l exercice de ces droits, il se conduira toujours de sorte a préserver la dignité de la fonction judiciaire ainsi que l impartialité et l indépendance de l appareil judiciaire
إنّ أكثر ما أثار استغرابي عند محاولتي البحث في هذه المسألة، أنّ معظم دول العالم التي نعتبرها ربما عن خطأ، الأقل ديموقراطية، قد نشأت فيها جمعيات للقضاة تعبر عن تطلعاتهم وهواجسهم ورغبتهم في ممارسة وظائفهم القضائية بكل استقلالية، فبدا لي لبنان البلد الأكثر تخلّفاً في هذا المضمار.
لا أدري لماذا نخشى من إنشاء جمعية للقضاة مستقلة شفافة تكون منفتحة على كل الجسم القضائي، ويكون هدفها الوحيد هو العمل من أجل خير القضاء وتعزيز استقلاليته، والدفاع عنها عند الاقتضاء أو عند تعرض القاضي للذم والتشهير، وتأمين التواصل مع المجتمع المدني، لا سيما مع الإعلام، فضلاً عما يمكن أن توفره هذه الجمعية من مساحة فكرية للحوار وإنماء الثقافة القانونية، بما من شأنه المساهمة في تطوير مرفق العدالة وفي تحسين الأداء القضائي ليتماشى مع أحدث التطورات العلمية
والتقنية.
أخيراً، لم أجد تعبيراً أصدق لأختم فيه مداخلتي ولأعبّر عن كل ما يختلج نفسي من أفكار ومشاعر بشأن هذا الموضوع من قول الكاتب الألماني اbon hoeffer، إن المعركة الوحيدة الخاسرة هي فقط المعركة التي نقرر التخلي عنها.
تُختصر قصة هذا الألماني الشاب الذي أُعدمته النازية في ألمانيا في عام 1945 في سن التاسعة والثلاثين، في أنه كان من المسيحيين الملتزمين، وقد هاله ما يحصل في ألمانيا على يد هتلر والنازية من ارتكابات وفظائع، فأبى الصمت والإذعان وانضم إلى مجموعة مقاومة للنظام، لكن النتيجة كانت أن اعتقل وسجن مدة سنتين كتب خلالها أروع كتاباته، ثم أُعدم قبل فترة وجيزة من انتهاء الحرب، لكن الفرق أنّ ذكرى هذا الشاب بشجاعته ونبله، ما زالت حتى تاريخه تخط مآثرها في ذاكرة الشعب الألماني، فيما لا يجد هذا الشعب سبيلاً لنسيان كابوس النازية وأعمالها الإجرامية ومحوها من ذاكرته وتاريخه.
خيارات الإنسان هي بالنتيجة التي تحدد مصيره، فهل نختار الصمت والإذعان والقبول بالأمر الواقع أم نختار المواجهة دفاعاً عن مبادئنا وعن العدالة وحقوق المواطن؟ قد لا نكسب مركزاً أو جاهاً على هذه الأرض، لكن يكفينا أن نكسب راحة الضمير ورضى الله، وهي الكنوز الحقيقية التي لا تفنى ولا تقدر بثمن.
* مداخلة ألقتها القاضية غادة عون في ندوة عُقدت يوم الجمعة عن الإصلاح القضائي بعد الطائف