مرة جديدة يتوسّع القاضي الناظر في قضايا الأحداث في بيروت، ليربط القوانين المحلية بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل، مستنداً إلى اجتهادات قضاة لبنانيين، لتكون الأولوية في أحكامه لحماية القُصّربعد اصطدام دراجة القاصر «علاء» (تركي الجنسية) بباب سيارة في مار الياس، سقط أرضاً، قبل أن يتعارك مع شقيق سائقة السيارة. تعرّض القاصر للضرب، بحسب الشهود الموجودين في المنطقة. حدث ذلك قبل وصول دورية فوج الطوارئ في شرطة بيروت.
وجدت القوى الأمنية مشهداً مألوفاً. أعداد كبيرة من المواطنين، معظمهم غير معني بالموضوع، لكنه يستمتع بمشاهدة العراك. وبعد التحقيقات الأولية مع الموجودين، حدد رجال الأمن مفتعلي العراك الرئيسيين. طلب رئيس الدورية من الراشد الصعود إلى السيارة الأمنية، فامتثل من دون أي ممانعة. أما علاء، فطلب إحضار سيارة إسعاف لنقله إلى المستشفى، لأنه كان مصاباً برضوض وكدمات، وكانت الدماء تسيل على وجهه. أصرت القوى الأمنية على إصعاده بالقوة، رغم وضوح علامات تعرضه للضرب. فحدث تدافع بسيط بين رجال الأمن من جهة، وعلاء وعدد من المواطنين من جهة أخرى، وحاول علاء الفرار، إلا أن أفراد الدورية أصعدوه «عنوة» من دون أن يتعرض لأذى إضافي. ورغم مطالبته بذلك، لم ينقل الموقوف إلى المستشفى إلا عندما رآه آمر فصيلة المصيطبة.
علاء كان قاصراً عند وقوع الحادثة، فأحيل على دائرة القاضي الناظر بقضايا الأحداث في بيروت، الرئيس فوزي خميس، بجرم ضرب رجال أمن ومعاملتهم بالعنف والشدة أثناء ممارستهم لوظيفتهم. وبحضور والده، كرر إفادته الأوّلية عما جرى معه، رافضاً الادعاء على رجال الأمن لتفسيره ما جرى بأنه «سوء تفاهم بسيط». وبعد استكمال التحقيقات، تبين أن علاء ليس من أصحاب السوابق، كما أن عدم امتثاله للقوى الأمنية، كان ناتجاً من الآلام التي تعرض لها بعد العراك. وأتت إفادات عدد من أفراد الدورية شبه مطابقة لما رواه علاء عن الحادثة.
وبما أن علاء مشتبه فيه بمحاولة مقاومة رجال الأمن، والاعتداء عليهم بالضرب، وذلك خلال أدائهم مهماتهم الرسمية، وفقاً للمادة 381 من قانون العقوبات (تنص على الحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات لمن عامل رجال الأمن بالعنف والشدة). وإحاطةً بالموضوع من جميع جوانبه، لجأ القاضي خميس إلى استعراض اجتهاد الغرفة السادسة في محكمة التمييز اللبنانية، التي تفصّل الحالات التي يعدّ فيها عمل المشتبه فيه منضوياً تحت الوصف القانوني للجنحة المنصوص عليها في المادة 381 عقوبات. فتبّين أن ثمة عوامل لازمة لاعتبار العمل جنحة، وهي تتلخص بمحاولة الضرب المباشر، أو شهر مسدس أو سلاح حربي بوجه رجال قوى الأمن. وبالتالي، خلص خميس إلى أن القاصر بريء مما نسبه إليه الادعاء العام لناحية المادة المذكورة.
إلا أن اعتراف علاء بتمنّعه عن الامتثال للدورية جعله خاضعاً لنص المادة 380 من قانون العقوبات (محاولة منع عمل شرعي)، التي تنص على الحبس شهراً على الأكثر والغرامة المالية، وشهد بذلك العناصر أنفسهم.
لكن القاضي، وخلاله توسّعه الفقهي في القضية، دقّق في مدى التزام رجال الأمن بممارسة صلاحياتهم الإكراهية، والقاضية بالاحتجاب عن كل عنف لا تفرضه الضرورة، تبعاً للمادة 225 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي، وخاصة أن الموقوف كان بحاجة إلى علاج فوري. ورأى القاضي أن عمل رجال الأمن مع القُصّر محكوم بعدة عوامل، أبرزها عدم تعريض أي قاصر للتعذيب، تبعاً للمادة 37 من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي وقّعتها الدولة اللبنانية. إضافة إلى ذلك، لا يجوز حرمان أي قاصر حريته، بصورة غير واضحة المعالم القانونية، أو بطريقة تعسفية، فضلاً عن وجوب احترام الأحداث والانتباه إلى كرامتهم.
واستفاض القاضي في مراجعة القانون 422/2002 (حماية الأحداث المخالفين للقانون أو المعرّضين للخطر) فدرس المواد المتعلقة بالقضية، ومنها المادة الثانية في بندها الثالث، التي تمنع خلط القاصرين مع راشدين أثناء التوقيفات والتحقيقات، والمادة 34 منه التي توجب وجود مندوب اجتماعي خلال التحقيق مع قاصر. وخلص خميس إلى ضرورة الموازنة بين مقتضيات عمل القوى الأمنية، وبين وجوب مراعاة أحكام القانون في ما يخص الأحداث. واستناداً إلى هذه المعطيات، أخذ القاضي خميس بعين الاعتبار حاجة القاصر الماسة إلى العلاج، التي لم يتداركها رجال الأمن، فبرّأه من التهمة لانتفاء الركن المعنوي في السياق والمكان الذي وقعت فيه الحادثة، وأصبحت المادة معطوفة على أحكام القانون رقم 422/2002، مما أدى إلى الحكم بتبرئة علاء وإبطال التعقّبات بحقه.
(الاخبار)