لمدينة حلب علامتان فارقتان: قلعتها الشهيرة و... صباح فخري! صاحب الحنجرة الماسيّة خاض رحلةً شاقّة وطويلة مع غناء القدود الحلبية والموشّحات والأدوار. وينكبّ حالياً على إتمام الموسوعة الكاملة لأعماله التي ستصدر مطلع العام المقبل
خليل صويلح
لا تكفي عبارة حارس التراث الموسيقي الأصيل في وصف مسيرة صباح فخري الغنائية، فصاحب الحنجرة الماسيّة منجم موسيقيّ آسر يحتاج إلى بعثة تنقيب لتصنيف كنوزه النفيسة. صباح أبو قوس الذي اكتشفه فخري البارودي في خمسينيات القرن المنصرم فأهداه اسمه، صار منذ ذلك الزمن ماركةً مسجّلة للأصالة والفرادة والسّحر. هكذا، ارتبط اسم حلب، مدينة القدود الحلبية والموشّحات و«السمّيعة» بعلامتين فارقتين: قلعتها التاريخية الشهيرة وصباح فخري.
لم يأتِ صاحب «خمرة الحبّ اسقنيها» إلى الموسيقى والغناء من تلقاء نفسه أو موهبته الفردية، ذلك أنّ حلب كانت ولا تزال منبع الموسيقى العربية الأصيلة التي أسّس لها ملحنون ومطربون كبار أمثال الشيخ علي الدرويش وبكري الكردي وعمر البطش ومحمد خيري. هذه الأرضيّة الأصيلة قادت صباح فخري إلى عالم الطرب، فانتسب أولاً إلى المعهد الموسيقي في حلب، ثم أكمل دراسته في دمشق، لينطلق منها إلى معظم مسارح العالم. وإذا به يدخل موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية بعدما وقف على المسرح عشر ساعات متواصلة. كان ذلك في مدينة كراكاس في فنزويلا، حين استبدّ به الطرب كعادته. نسي ابن السادسة والستين حينها الزمن فمزج الليل بالنهار، وراح يتمايل على خشبة المسرح بانتشاء صوفيّ أخّاذ.
ارتباطاته الغنائية الدائمة لم تمنعه من الانكباب على كتابة الموسوعة الكاملة لأعماله، التي من المتوقع أن تصدر مطلع العام المقبل. «الموسوعة توثيق لجميع أعمالي الموسيقية والغنائية: مَن كتبها ومَن لحّنها، ومتى غُنّيت للمرة الأولى مع شروح للأغاني ومعاني بعض المفردات الصعبة».
من جهة أخرى، وكنوع من الرّد المباشر على انحطاط الغناء العربي في معظم نماذجه، أسّس صباح فخري معهداً فنياً في مدينة حلب. «معهد صباح فخري للموسيقى والغناء» هو الأول من نوعه لجهة طريقة التدريس، وتعليم اللغة العربية والتجويد. يقول صباح فخري شارحاً «المعهد يعلّم الغناء والموسيقى بطريقة جديدة تعتمد على تربية المطرب وصوته مدة ثلاث سنوات، بصرف النظر عن العمر أو الشهادة، وفي نهاية الدراسة سيقيم مهرجاناً للأصوات الجديدة». ويضيف «المعهد الجديد سوف يكون ملاذاً لحماية التراث الغنائيّ الأصيل بقصد الحفاظ عليه من جهة، وتطويره من جهة ثانية لمواجهة الصرعات الغنائية الوافدة».
محطّات الذكريات كثيرة في حياة صباح فخري، لعلّ أكثرها بقاءً في الوجدان، تلك التي تعود إلى عام 1973، حين غنّى خلال حرب تشرين «حيّ على الجهاد»، ما حدا بالحكومة الإسرائيلية إلى إصدار أمر بحرق ألبوماته في الشوارع. كما أنّه ـــ خلال حفلة في الأردن ـــ قام بطرد إسرائيليين أرادوا حضور حفلته. وزيادة في الحيطة، أوقف ابنه على باب المسرح للتأكد من جوازات سفر الحضور خوفاً من تسلّل إسرائيليين إلى الداخل.
تعصّبه للتراث لا يعني مناهضته للأغنية الحديثة أو التجديد في الغناء العربي «مع ضرورة الاحتفاظ بهويّة الأغنية العربية عبر الحوار الجادّ بين الأجيال» ويستدرك قائلاً «صحيح أنّ المستمع العادي تستهويه الموجات العابرة والصرعات والموضة، لكن هناك موضة من ذهب وأخرى من معادن رخيصة تشوّه الذائقة».
لا ينكر صباح فخري الحال المتردية التي تعيشها الأغنية العربية اليوم، لأنّ «الأغنية مرآة العصر» كما أنّ التخلف الذي نعيشه في كلّ نواحي الحياة، ألقى بظلاله على الأغنية العربية التي تعيش «عصر انحطاط حقيقي». ولكن كيف تستعيد الأغنية العربية هويّتها ورقيّها؟ «باستعادة الأغنية الطربية» يقول صباح فخري جازماً، قبل أن يقارن بين عصر أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد وواقع الغناء العربيّ اليوم «هؤلاء عاشوا في زمن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لذلك أبدعوا تراثاً أصيلاً لن ينسى». يصمت قليلاً ثم يقول «لا أخشى على الغناء العربي من التدهور الذي يعيشه اليوم لأنّه زائل، ولن يصمد إلا الأصيل منه».
وحين نستغرب أن يتّجه ابنه أنس أبو قوس إلى غناء الروك، يقول «ليس بالضرورة أن يكون أنس خليفتي في الغناء، وأنا سعيد بأنّه اختار الموسيقى التي تستهويه، المهم أن يؤسّس خطّه الخاصّ».
يعتقد كثيرون بأنّ صباح فخري نقل التراث الموسيقي الحلبي من دون إضافات، لكن صاحب «قدّك الميّاس» و«قل للمليحة» ينفي هذه التهمة: «إنّ ما حققته في غناء القدود الحلبية والموشّّحات والأدوار، هو ثمرة رحلة طويلة وشاقّة. إذ كنت أول من عمد إلى تطوير التراث الغنائي الحلبي وإزالة الغبار عنه... كنت مثل الصائغ الذي يلمّع الجوهرة ليظهر جمالها بما يتناسب مع الذائقة العصرية، ولم أتوقف إلى اليوم عن نبش التراث وتطويره».
ليست رحلة صباح فخري مع الغناء سهلة إذاً، فهو صرفَ سنوات طويلة من عمره على إعادة صوغ التراث الغنائي الحلبي بمنظور جديد. وكان خلال دراسته الموسيقية قد عمل في مهنٍ عدة، كي يستمر في تعلّم أصول الغناء، فعمل مؤذّناً في جامع، ومدرّساً، وعاملاً في مصنع نسيج، وفي محطة وقود.
هكذا فإن من يسمع «هات كأس الراح» مثلاً في تلويناتها الصوتية والطربية، سيكتشف عن كثب حجم الإضافات التي حقّقها صباح فخري في تجديد التراث الغنائي الحلبي بحيث يستسيغه مستمع اليوم، وإلا فما تفسير الإقبال الكبير على أغانيه وإقامة حفلاته في ملاعب كرة القدم والساحات العامة؟ وقبل كل ذلك، الجلوس ساعات طويلة للإنصات إلى سحره الغنائيّ المتفرّد؟
ليس الصوت الأخّاذ وحده، هو مَن يجذب «السمّيعة» إلى أغاني صباح فخري، بل الحضور الشخصي للمطرب. إذ ما إن يتماهى مع كلمات الأغنية حتى يبدأ الرقص بحركات مدروسة تشبه الدوران الصوفي. وإذا بالنشوة تستبد بالحضور في طقس غنائيّ فريد، فتصير عبارة «ليلي ليلي ياليل» التي يكرّرها عشرات المرات من مواقع طربيّة ولونيّة متباينة، ومن مقامٍ إلى مقام، أغنيةً كاملة، تكشف أصالة صوته وعمق معرفته الموسيقية وقدرته الاستثنائية على جذب المستمع إلى صوته ساعات طويلة، من دون ملل أو تذمّر، في عصر صارت فيه الأغنية لا تتجاوز الدقائق.
بخصوص صباح فخري، أحد آخر الكبار، علينا أن ننسى الزمن وننصت إلى رنين الصّوت الآسر إلى آخر ممرّات الحلم والنشوة والإبهار.


5 تواريخ

1933
الولادة في مدينة حلب (سوريا)

1948
أنهى دراسته في المعهد العربي للموسيقى في دمشق

1968
أُدرج اسمه في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بعدما غنّى على المسرح مدة عشر ساعات متواصلة

2004
جائزة تقديرية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم

2007
وسام الاستحقاق السوري