strong>صباح علي الشاهر *تلفت انتباه المراقب السياسي هذه الأيام، حركة النخب السياسية العراقية في كل الاتجاهات. لم يعد الماء راكداً. ثمة من ألقى حجراً كبيراً في البركة. في مدن الاغتراب، وفي الداخل أيضاً، يستذكر البعض المهمة النضالية التي وضعها على الرف دهراً، كما يفطن البعض الآخر إلى أهمية التنظيم وتجميع خلق الله للإسهام في التغيير المنشود. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل كان التنظيم قبل هذا غير مهم وأصبح الآن مهماً؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا؟ لماذا أصبح التنظيم مهماً الآن حتى بتنا نستحضر أشباه الأموات، ونستدعي من تكلّس أو ركن في الرفوف العالية؟ ونجلو من صدأ ونُلّمع من اتسخ بحثاً عما يُذكّر الناس بتنوع مفتعل؟
في عمان وسوريا، في بيروت ولندن، وفي البصرة وبغداد. ضمن إطار العملية السياسية أو خارجها. ضمن أنصار المشروع الأميركي أو أعدائه. بين العشائر أو العمائم، وفي كل مكان تقريباً، حركة ظاهرة ومستترة، خائفة أو قلقة، راصدة أو مُستنفرة، هي اليوم إما داعية أو مدعوّة للقاء أو مؤتمر، لتحالف أو اتحاد، لتجمع أو حركة، لتأليف لجنة تحضيرية أو إقامة اجتماع تأسيسي!
ولأن هذه الحركة تحتاج إلى تمويل، لم يعد ثمة محظور أمام من يُموّل، لا يهم إن كان سارقاً أو فاسداً، محكوماً أو مطارداً بجريرة نهب مال شعبنا ووطننا المُبتلى. لم يعد ثمة من يسأل عن ماضي فلان وعلان. لم يعد أحد يشترط عدم مشاركة الوسخين، بل بات يُفرد للوسخين الصدارة، فقد غسلت تبرعاتهم السخيّة وسخهم كله، وجعلت رائحتهم مسكاً وعنبراً.
في السعي المحموم لسرعة التحرك وسبق الآخرين، سقطت كل المحاذير. لم يعد لها من وجود إلا في بيانات اللجان التحضيرية أو المؤتمرات التأسيسية، أو في بيانات الدجل والشعوذة والأكاذيب التي تصدر من منظمات لا حصر لها ولا عد، تلبّست السرية بديلاً من الشفافية، وكأنها قوات تحرير شعبيّة يعتمد وجودها على السرية. تنظيمات وجدت في السرية المُدّعاة وسيلة لستر ضعفها ولافاعليتها وخواء العاملين فيها. منظمات لم يعمل أحد من أفرادها في أي عمل سري أو نضالي في حياته كلها، فإذا به فجأة يبز الشيوعيين والبعثيين والقاعديين والفدائيين الفلسطينيين في العمل السري. فالسرية تخفي الشيء عن الآخر، فكيف يكون الأمر إذا كانت السرية ليست إخفاء الشيء بل تمويه اللاشيء.
منظمات لا تعرف عنها سوى اسمها، وفي أحسن الأحول شخص المتحدث باسمها. تمتهن الصخب الفارغ، والإيهام الإعلامي لإشعار الآخرين بوجود كاذب، أو دفع المتبرعين لزيادة التبرع بما يتناسب مع قوة التنظيم المتصاعدة واتساع رقعة وجوده وتنوع فعله!
باتت صناعة التنظيمات مهمة من لا مهمة له. وأصبح يتحكم بنا منطق معادلة عكسية، كلما زادت تنظيماتنا وتجمعاتنا واتحاداتنا وهيئاتنا ازددنا ضياعاًً وتمزقاً وتشتتاً وتناحراً وضعفاً. أضحى صاحب الدكان السياسي مجرد جابٍ يجبي المال من الحرامي والسارق والمُرتشي وكأنه يزكيه، لا دينياً فهو وسخ حتى يوم القيامة، بل سياسياً.
يتصوّر البعض في حُمّى تأسيس التنظيمات على عجل، أنه يسابق الزمن، ويهيئ البديل، الذي سيُقدمه للمحتل المندحر، ليتسلم منه البلد المُثخن بالجراح، ليعيد له الصحة، أو يُعيد بناءه بعد أن يُحرّر، لا عن طريق الجديرين بالتحرير، بل عن طريق المحتل ذاته، الذي سيترك البلد لأنه انهزم بفعل صخب التنظيم الفلاني، أو التجمع العلاني، لذا لم يجد المحتل أمامه من سبيل سوى تقديم مقاليد حكم البلد لهذا الدكان المجهري أو ذاك! وتلك لعمري سذاجة ما بعدها سذاجة وهبل ما بعده هبل.
فالمحتل قبل أن يحتل البلد، جمع شتات الخونة في مؤتمرات معروفة، وأنفق الملايين لمن كان همه جني الملايين، وجعلهم يُسبِّحون بحمده منقذاً موعوداً، ومحرراً مشهوداً، وجعلهم يتمسحون بأذيال موظفيه، لكنه لم يسلمهم البلد، بل تسلمه هو، وعندما مسح الوجود الحقيقي والفعلي للعراق، ركّز أذنابه على كراسي الحكم، تحت وصايته وإشرافه، من الرئيس حتى الغفير. وحتى عندما فرض المحتل على مجلس الأمن توصيف ما حدث بالعراق على أنه احتلال، وتوصيف الأميركي بأنه محتل، ظل هؤلاء المطايا يرددون أن العراق قد تحرر، وأن الأميركي هو المُحرر.
جمعهم، ثم استخدمهم، وعاد ليفرقهم من أجل أن يستخدمهم بشكل أحسن، وأنتم تمتهنون التفرقة والتشرذم، متوهمين أن العملاء في العراق هم عملاء بوش، أو تشيني، وبالتالي فعند زوال بوش وتشيني، فإن هؤلاء العملاء سيفتقدون الحامي. يا سادة! العملاء عملاء البنتاغون، أو وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، أو الخارجية الأميركية. إنهم عملاء المؤسسات الأميركية، وأميركا دولة ومؤسسات. ربما ستكون الغلبة لخط العملاء التابعين للبنتاغون، أو التابعين للخارجية، أو وكالة الاستخبارات المركزية، لكن يظل ولاء هؤلاء لأميركا، فهم خدمها أكانت أميركا ـــ بوش أو أميركا ـــ أوباما.
وسواء انسحب أوباما أم لم ينسحب، فإنه سيضع مصلحة بلاده نصب عينيه، ومصلحتها لا تحققونها أنتم، ما دمتم تصفون أنفسكم بأعداء الاحتلال والمحتل. مصلحة أميركا يحققها أصدقاؤها، وأصدقاؤها هم من في السلطة الآن، ومن تدّخرهم وتخفيهم وسوف تظهرهم عند اللزوم ليمهدوا لها رحيلاً سلساً آمناً ومشرفاً، رحيلاً سيكون هو والبقاء سيان.
ربما سيُتخلّى عمن احترقت أوراقه من العملاء، أو عمن لم يعد وجوده نافعاً لأميركا، لكنهم في مطلق الأحوال سيتفاهمون مع أصدقائهم، ما لم يكن ثمة ما يضغط عليهم، وما دامت تنظيماتكم تتكاثر كالورم السرطاني، فأنتم متفرقون، منشغلون عن المهم بالأقل أهمية، وبالثانوي عن الرئيسي، وما دمتم لا تسعون إلى خيمة تضمّكم جميعاً، فأنتم أعداء الاحتلال من مختلف الأطياف والمشارب.
أيها السادة، تمهلوا! أنتم تهرولون بالاتجاه المعاكس!
* كاتب عراقي