العراق ــ الأخبارتختلف طبيعة شمال العراق عن جنوبه. ففي الشمال ترتفع الجبال التي يكسو الثلج سفوحها في الشتاء، وتخضرّ وديانها وسهولها في الربيع. هذه الأرض الخصبة والصعبة المنال كانت ملجأ النساك المسيحيين منذ القرن الرابع ميلادي. فجبال محافظات شمال العراق تعج بأديرة أوائل النساك المسيحيين الذين التجأوا إليها بحثاً عن الأمان من جهة، وللاختلاء بعيداً عن العالم من جهة ثانية. ففي سفح جبل سفين، الذي يبعد عن مدينة أربيل 50 كيلومتراً، دير قديم أعطى اسم مؤسسه للوادي المطل عليه: وادي ربان بويا أو بيا. ويمكن اعتبار هذا الدير نموذجاً عن صومعات النساك التي تحولت إلى أديرة في شمال العراق.
ربان بويا هي التسمية المحلية التي تطلق على الراهب بيري مؤسس الدير في القرن الرابع الميلادي. وقد ذكر الراهب بيري في إحدى المدوّنات التاريخية المسيحية الخاصة ببلاد الرافدين، والمعروفة بقصة مار قرداغ الشهيد. ومار قرداغ الشهيد هذا كان أميراً لمنطقة أربيل في عهد الملك الساساني شابور الثاني (310ـــ379 م)، وكان حاكماً جباراً، ولكن اعتناقه للديانة المسيحية أدى الى استشهاده عام 359م. وتروي القصة أنه التقى الراهب بيري وتحدث معه بعد اهتدائه للمسيحية.
وتقول الكتابات التاريخية إن الراهب بيري أمضى 68 سنة من حياته في الصلاة والزهد في هذا الصومعة التي تحولت مع الوقت لتصبح ديراً مؤلفاً من ست غرف محفورة في الصخر، ومزودة بخزان ماء منقور في صخرة كبيرة.
زائر الدير يندهش لمشهده ومنظره الرائع. فالدير محفور في سفح الجبل ويشرف على الطرق المؤدية إلى الوادي، مما يسمح للنسّاك فيه بمراقبة القادمين إليهم عن بعد، وبالتالي الاحتماء في حال الحروب. ومع الزمن نُسجت الأساطير حول الدير ورهبانه وقدراته على تحقيق أمنيات الزائرين، من أي طائفة كانوا. غرف الدير متصل بعضها ببعض، وجدرانه إما مبنية في الصخر أو محفورة فيه. أولى الغرف لا تزال تحتفظ بآثار الإضاءة التي استعملها الرهبان دهوراً مضت، وهي متصلة بالثانية التي يستدل من آثارها أنها كانت محل حياكة، وتعلو حائطها كوة صغيرة تدور حولها بعض المعتقدات، ومفادها أن من ينجح في رمي سبعة أحجار صغيرة تمر من خلالها ينال مراده. بجانب غرفة الحياكة، غرفة صغيرة قليلة الارتفاع استعملت قبراً، وكانت حتى خمسينيات القرن الماضي لا تزال تحتفظ برُفات شخصين تفصلهما صخرة حمراء طولها نحو مترين وارتفاعها نحو 30سم. وكانت الرُفات مغطاة بنوع من قماش بدائي أبيض اللون طرز عليه صليب. والمعروف أن نوع القماش هذا كان ينسج سابقاً في شقلاوة، أقرب مدينة إلى الدير، ويدعى باللهجة المحلية «كراوا». وكان عالم الآثار الألماني رالف سوليكي قد كشف على الرفات والقماش وقدر عمره بأكثر من 1500 عام. وتقول الأساطير المتداولة عن الدير إنه يحوي قبر الراهب بيري في إحدى الغرف المنحوتة في الصخر والمزودة بباب صغير. مما يدفع بالمؤمنين من مسيحيين ومسلمين إلى المجيء إليه في عيده (الجمعة الثانية بعد عيد القيامة) وإضاءة الشموع، وأخذ التراب للتبرك والشفاء من الأمراض.