تعقيباً على «وجوه» (العدد 684) «محمد عباس حاطوم من ثائر إلى ابن دولة» بقلم الزميل قاسم س. قاسم، وردنا من ضابط قوى الأمن المتقاعد فهد سليمان فرحات، تعقيباً ننشره كما هو لقيمته التأريخية، وخصوصاً أن الكاتب ابن ثائر آخر من المجموعة نفسها لكنه يمتلك الرواية الكاملة
فهد فرحات
«لما كانت هذه الحادثة التاريخية هي من الأحداث التي يجب التوقف عندها، والتي ترتبط بتطورات المنطقة العربية وذات صلة وثيقة بانتفاضة العرب الأولى في نهاية العهد العثماني، وأدت إلى إعدام مجموعة من خيرة رجالات العرب الذين كانوا يسعون إلى نيل الاستقلال والحرية، وكذلك بالانتفاضة الثانية التي أدت إلى دخول القوات الفرنسية إلى سوريا في عهد الملك فيصل الأول بعد معركة ميسلون المشهورة، لذلك أقول إن ما ورد في هذا المقالة على لسان الأبناء والأحفاد، معلومات مجتزأة لا توصل القارئ لمعرفة الأهداف الوطنية الحقيقية ولا إلى الدوافع أو الجهات التي حرّكت هذه الأحداث أو حددت مواعيد وأمكنة حصولها.
المرحوم محمد عباس حاطوم (الملقب بملحم قاسم المصري) هو شاب مقدام طموح، عروبي التوجّه مثله مثل الكثيرين من أبناء الضاحية الجنوبية في ذلك العهد الذي كان يمثّل مفصلاً بارزاً ودقيقاً جداً ما بين عهدين لدولتين كبيرتين منتدبتين على بلدنا الصغير لبنان، رغم الفارق الظاهر ما بين العهد العثماني البغيض المليء بالمؤامرات الذي جلب الفقر والمرض والبؤس والجهل والموت على الطرق، وبين عهد الانتداب الفرنسي الذي حاول أن يطبق بعض الحريات السياسية التي وصفت بها دولة فرنسا بعد الثورة الشعبية العارمة التي أطاحت نظام الملكية وكرست الحكم الجمهوري الشعبي الصرف.
الشاب محمد حاطوم هو أحد الشباب الذين كانوا ينتمون بالأساس إلى بعض المجموعات السرية التي كانت تعمل لمصلحة شهداء الوطن، وخاصة علاقتهم الثابتة مع المحامي الشهيد عبد الكريم الخليل الذي كان يجتمع بهم في مسجد برج البراجنة في حي المنشية بعيداً عن أعين الأتراك، ومن هؤلاء الشباب سليمان سعيد فرحات (والدي) الذي كان مكلفاً بإيصال الرسائل المتبادلة ما بين الشهيد عبد الكريم والشهيدين هلّيل (اللذين أعدمهما الأتراك عام 1916) في وادي شحرور، والأب حايك في سن الفيل، وغيرهما من شهداء ورجالات الوطن الأحرار. وبعد زوال العهد العثماني بقيت الروح الوطنية الاستقلالية تراود هؤلاء الشباب، وكثر عددهم بعدما أعلن الملك فيصل الأول الهاشمي نفسه ملكاً على سوريا إثر عودته من أوروبا عن طريق مرفأ مدينة بيروت. فقصدوا مدينة دمشق وتطوعوا في الجيش العربي الفيصلي، وقد برز من بين هؤلاء المتطوعين الشاب سليمان سعيد فرحات، وكان خبيراً بالأسلحة الحربية فرقّي لرتبة ملازم ثم إلى ملازم أول ثم إلى نقيب (بندقي) ثم كُلّف ببعض المهمات السياسية والعسكرية في الضاحية الجنوبية والتنسيق مع ثوار منطقة الجنوب، وتردد أكثر من مرة على منطقة قلعة تبنين، وروى لي رحمه الله أحداثاً هامة جداً لا مجال لذكرها في هذا المكان.
خلال عام 1920 على الأرجح، أعدّ عدد من وجهاء برج البراجنة، ومنهم المحامي عبد الكريم سليمان فرحات، عم والدي، وكان نائباً عن جبل لبنان في نهاية عهد المتصرفية، ونسيبه المحامي مصطفى الشيخ محمد رضا (كلاهما من متخرجي معهد الآستانة في اسطنبول) احتفالاً لمناسبة زيارة الحاكم الفرنسي الجنرال غورو لمنطقة الضاحية الجنوبية، وبالأخص بلدة برج البراجنة. حيث سبق للجنرال أن وعد بتعبيد طريق بيروت الضاحية وإيصالها إلى بلدة بعبدا، وفتح مدرسة رسمية أولى. ويوم الاحتفال ظهر والدي كرئيس لمجموعة مسلحة بالبنادق والقنابل والذخيرة، ومن عديد هذه المجموعة المرحوم محمد عباس حاطوم، فخرّبوا أولاً الزينة ومزّقوا الأعلام وفرّقوا المجتمعين بإطلاقهم العيارات النارية في الهواء، ثم غادروا ساحة المنشية ليصعدوا إلى أعلى مئذنة المسجد المطلّ على الساحة وتمركزوا فيها، ولدى وصول مستشار الجنرال غورو مع ثلّة من الجنود الفرنسيين، أطلقت المجموعة النار باتجاههم، فأصيب بعضهم بجراح واضطروا للانسحاب وإخلاء المنطقة. وقد أبلغ الجنرال بالحادثة وألغى زيارته للمنطقة بصورة نهائية. وعلى الأثر داهمت القوات الفرنسية بعض المنازل وتمكنت من اعتقال محمد عباس حاطوم ويوسف دياب الحركة، ووُضعا قيد التوقيف في سجن القلعة العائد للقوات الفرنسية في منطقة الروشة. أما والدي فقد هرب لجهة الأوزاعي حيث كانت مقالع الحجارة، فاشترى جملاً كما اشترى بعض الألبسة القديمة من صاحب الجمل، فارتداها وركب الجمل وتوجه به إلى مدينة صور. وهناك قصد منزل العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه الله، وأبلغه بما حصل في برج البراجنة. وكان السيد على علاقة بالحركة الاستقلالية ومؤيداً للملك فيصل الأول. ثم تابع سيره شرقاً نحو بلدة شبعا، فهضبة الجولان، فدمشق، وهناك عاد إلى مركز عمله في «المشيرية» أي وزارة الدفاع بالتركية، وبقي حتى ما بعد معركة ميسلون. وعند دخول القوات الفرنسية مدينة دمشق التحق مع بعض الضباط اللبنانيين بإمارة شرق الأردن وأصبحوا في عداد الجيش الأردني الفتيّ. وبعد فترة أصدر الفرنسيون عفواً عاماً عن جميع السياسيين والمناضلين الفارين فعاد إلى لبنان عن طريق فلسطين حيث عيّن ضابطاً في فوج إطفاء مدينة بيروت، كما عيّن الفرنسيون زميله محمد عباس حاطوم أيضاً مسؤولاً في قسم مكافحة مهرّبي التبغ والدخان في مصلحة الريجي.
يقول الكاتب والمربي المرحوم محمد كزما في كتابه «الضاحية أيام زمان» إنه شاهد هذه الحادثة بأمّ العين، لأن ساحة المنشية تقع مقابل منزل والديه، وأنه لأول مرة كان يشهد مثل ذلك المنظر المخيف وهو فتى يافع في بلدته. وأنه بعد فترة طويلة من الزمن اجتمع بوالدي وأبلغه أن الهدف كان سياسياً لأن التوجّه السياسي لأبناء الضاحية الجنوبية كان وحدوياً عربياً.
وفيما أختم كتابة هذه القصة أسأل نفسي: هل والدي كان على حق في ما أقدم عليه مع رفاقه؟ ما أدى إلى احتلال منازل العائلة وتخريب محتوياتها وهرب والدتي من برج البراجنة والتنقل من بلدة إلى أخرى هرباً من جنود الاحتلال؟


استقطاب «القبضايات»

كان سليمان فرحات، رئيس المجموعة التي حاولت اغتيال غورو، ومحمد عباس حاطوم من منطقة واحدة. الحس العروبي لدى محمد حاطوم عنده جعل فرحات يعمل لتجنيده في جيش الملك الفيصل. بعد محاولة اغتيال غورو وإصدار العفو، عملت فرنسا على استقطاب «القبضايات» كما يقول فهد فرحات ليصبحوا ضباطاً في الدولة التي أعلنت قيامها.