أنسي الحاج
مجازفة عون
إذا اعتبرنا أن حرب العماد عون في الثمانينات على الجيش السوري تُعادل في الميزان أعمال الوُلاة السوريين في لبنان خلال ثلاثين سنة لطلعنا متصافين: لا غالب ولا مغلوب. وإذا اعتبرنا حفاوة دمشق بالعماد عون في حجم الضغائن اللبنانية والخسائر اللبنانية والجراح اللبنانية والمطالب اللبنانية من النظام السوري لخرجنا أيضاً بمعادلة عفا الله عمّا مضى. ولكن الواقع ليس كذلك. يستطيع العماد عون أن يغيّر أشياء كثيرة في شعبه ولكنه لا يستطيع إلغاء عناصر التاريخ ووقائع الأحداث وخلفيّات الخصومة التي ما برحت تحكم العلاقات الثنائية لا منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920 بل منذ عهد فخر الدين الثاني المعني الكبير. إن عنجر اشتهرت على أيّامه، ولكنّها شهرة المعركة التي تغلّب فيها على متضايقي ذلك الزمان من لبنان وتوسّعه وانفتاحه وعلاقاته بالغرب الإيطالي تفلّتاً من القبضة العثمانيّة.
عنجر اللبنانية. وما قبلها بقرون غالباً ما كانت تتوتر بين فينيقيا الدمشقيّة البريّة الصحراويّة وفينيقيا اللبنانية البحريّة. علاقات الود والصدّ منذ البدء. ربّما كان أحياناً على اللبنانيين الاعتذار عن سلوكهم من الجار الشرقي وأحياناً على السوريين أن يعتذروا. ولكن ليس هذه المرّة. ولا يُخاطَب اللبناني تقريعاً وتوبيخاً من منابر دمشق، فهذه تعادل مخاطبة الرئيس الجميّل للسوريّين مهدّداً بالمدفع من البيت الأبيض.
يستطيع شخص بزعامة عون أن يؤثّر في التاريخ، شرط أن يراعي معطياته. إن بين المزاجين السياسيين اللبناني والسوري فروقاً أساسيّة رسمتها الصحراء من جهة والبحر من جهة وعمّقها السلوك والتراث ثم ترسيخ العادات. لذلك إنَّ ما كان محرّماً، كما قال العماد، لا يمكن أن يصبح حلالاً لمجرد أن الجنرال كَبَسَ الزرّ. لا أحد يغيّر الآخر في العمق. أقصى المطلوب هو أن يتواضع كل طرف ويفهم الآخر ويَقْبَله كما هو ويتعايش وإيّاه على خير ما في الفريقين لا على أسوأ ما فيهما. وهذه مسؤولية الحكمين.
تفاهم عون مع «حزب الله» أرسى قاعدة لوحدة وطنيّة كانت نوعيّتها الجديدة غائبة عن الاهتمام. وقد أخذ جمهوره حيث أراد وحسناً فعل، فلا يجوز الانقياد للجمهور حيث تقضي المصلحة الوطنية، ومصلحة هذا الجمهور بالذات، أن يذهب حيث يأخذه زعيمه. وزيارة دمشق التي سمّاها أحد الزملاء «قاسية» هي قاسية على ذوي الشهداء من العسكريين وغير العسكريين الذين سقطوا في حرب التحرير، وقاسية على الذاكرة التي لم تندمل جروحها بعد، وهو أمر خطير. لكنها بالمقياس الموضوعي البارد، وبصرف النظر عن الحسابات السوريّة التي هي دائماً كثيرة، لا بدّ من ملاحظة الجرأة التي انطوت عليها الزيارة. لقد جازف عون بكلّ رصيده بل جازف بصورته التاريخيّة التي انحفرت في الحسّ الوطني اللبناني ورمى نفسه في البحر وقال: يا أنا يا البحر.
ماذا سيربح اللبنانيون؟ مع التحفّظ عن الجواب، هذا هو السؤال.

«صوّروا الأسطورة!»

كان المخرج السينمائي الأميركي جون فورد يقول: «حين تكون الأسطورة أبدع من الواقع، صوّروا الأسطورة!». لا يُعاب الأدب الذي يحملنا على جناح الحلم، فهو يساعدنا، ولا يُعاب خصوصاً بحجّة لا واقعيّته، فهذه اللاواقعيّة، حين تنطبع على الورق وتخطف عقولنا، هي أكثر ما يُرجى أن يقدّمه عقل لآخر، ويد طائرة على الصفحات إلى الخائفين من كل صباح يطلع عليهم.
ظَلَّ النقّاد يعتبرون بلزاك روائي الواقع حتى جاء بودلير وأظهر فيه الملهَم الرائي الذي خياله يضاهي عينيه، ولو شكت لغته بعض السوقيّة أحياناً.
الخرافي، الخيالي، الأسطوري، ما هي؟ يقول الواقعيّون، في الأدب كما في السينما، إنّها اللجوء إلى السهولة والتخدير عوض المواجهة والخَلْق. ترّهات. الروبورتاج يواجِه ويَفْضح، لا ضرورة لدوستيوفسكي وستيفنسون وديكنز وفولكنر ونجيب محفوظ من أجل هذا. الجريدة تكفي، والتلفزيون لن يترك زيادة لمستزيد. ما يعطيه الخيال هو المعنى الذي لن يعرفه الحيّ بدونه، معنى للحياة ومعنى لعدم معنى الحياة. الخيالي والخرافي والأسطوري هي انتقام برهان الإنسان ضدّ إعدامه، وإحقاق توازن روعة التحليق مع رعب الغَرَق في الرمال المتحرّكة.
لو كان في الروايات الحديثة ـــــ ولا سيّما منها الفرنسيّة ـــــ قيراط من خيال ألف ليلة وليلة لما أعرض عنها القارئ، بل لما رفض مطالعتها المثقّفون أنفسهم. حاجة النفس إلى تهريبها من الواقع لا يشبعها، بعيداً عن المخدّرات والمسْكرات، غير الصلاة وتلك السطور التي تتحرّك أمام العينين كالمشعوذ العفريت ثم تبدأ بفتح الأبواب بَعْد الأبواب أمام القارئ المبحر المستسلم إلى البحّار استسلام الطفل الواثق إلى مُعلّم.
لا دعوة إلى التغاضي عن الواقع والتاريخ بل بالعكس: بناء قصص وروايات (ومسرحيات وأفلام) على الواقع وتغذيتها بالمعطيات التاريخيّة والمضيّ بها إلى رؤى خاصة بالكاتب، رؤى يخترق بها حدود الواقع ليقترح تصوّراته وانطباعاته وتخميناته ولو اضطرّه ذلك ـــــ ونِعْم الاضطرار ـــــ إلى إيهامنا بأنّها وقائع. إن هذا حقُّ الخَلْق، وخيال الروائي، كخيال الشاعر، لا نهاية لسقفه.
على الأدب أن يعود ويتقدّم الإعلام والسينما. على الكتاب أن يستردَّ مغامرته وعظمته. على الرواية أن تَرْوي. وأن تصنع التاريخ.

أناشيد

نطلق على بعض كتاباتنا تسمية «أناشيد» تيمّناً. في البداية كانوا يُلحّنون أيّ شيء. «أنا زعلان» تأخذ كلّ الليل. «يا ليل يا عين» كلّ الدماغ. ثم تطوّروا إلى الحكاية، فإلى اللفظة المجلوّة، المكتنزة، التي تحاكي الذوق الأدبي إن لم يكن المخزون الثقافي. من المواويل فأحمد شوقي فالأخطل الصغير مروراً بالفولكلور، إلى «شغل» الأخوين رحباني مروراً واعتماداً على الفولكلور مباشرة أو بأخذ رَشْفة سريّة. ثم عودة مع زياد الرحباني إلى الواقعيّة وسفك الدم الرمزي. ثم لا شيء. فوضى ولا شيء. الآن يسمّي الكُتّاب بعض كتاباتهم أناشيد استحلاءً وعلى أمل. لكنَّ هذه الأناشيد ما هي بأناشيد إلاّ بمقدار ما هي الروايات الحديثة روايات. أي شبه مقالات، ونظلم المقالات. يتمنّى الكاتب أن يُغنَّى. قَلَّ مَن لا يتمنّى. خصوصاً الشرقي. ولكن إلى أيّ حدٍ نحن شرقيّون؟ الأرمني شرقي أكثر من اللبناني. التركي، مع أن نصفه في الغرب، شرقي أكثر من عرب كثيرين، خصوصاً في ميادين الفن.
الخلاصة، جميعهم يحلم بأن يُغنّى، وأحياناً يعطف ملحّنون وملحّنات على هذه الكتابات المنثورة ويُلحّنون وتُغنّى. وقد تتسامح معها أذْن هنا وتحتملها أذْن هناك. لكنّ المحاولة تبقى محصورة بين نخبة ونخبة. كما حصل ويحصل مع عابد عاذرية وماجدة الرومي وهبة القوّاس وغادة غانم وجاهدة وهبه وسواهم. ويظلّ الكتّاب يسمّون تمنّياتهم أغاني وأناشيد.
ولا يُستبعد أن ييأس أحدهم من نثره ويعود إلى الوزن والقافية لعلّهما يحلاّن المشكلة، ولو إلى حين التلحين. على أمل مرور فترة سماح يستريح خلالها الكتّاب غير الغنائيّين من إكراه كتاباتهم على تحَمُّل تسمية أناشيد.
إلاّ إذا كانت التسمية ـــــ وهذا حصل ـــــ من باب الهَزْل.

العيون

لا نحبّ أبعد من عينين. الباقي حواشٍ وأطراف. المحبوب هو ما يهجس به البال فيفيض موجه. العينان أعنف الهواجس وأنعمها. باب يكاد ينفتح على محرَّم. تصبح العينان هما الدعوة، وأمّا تلبيتها فثانوية، وقد يرفضها اللاشعور محاذراً مغبّتها. ما يعجز سائر الجسد عن قوله تقوله العينان. تقولانه وتفعلانه إذ تجعلان المأخوذ بهما مجمَّداً بين ذروتين: أعلى روحه وأعمق أحشائه.
لا تُخْلَقْ إلاّ بعينين ضاحكتين أو مرتعبتين، وبين الصنفين دع العيون البحيرات للنساء: هناك حيث يَبهت الضاحك ويعثر المرتعبُ على أمّه.


«هجرة الكلمات»

صدر عن «دار الآداب» كتاب «هجرة الكلمات» للشاعر شوقي بزيع ويضم مجموعة من كتاباته النثريّة المختارة، وقد حمل غلافه الأخير هذه الكلمة لأنسي الحاج:
«في نثر شوقي بزيع حسيّة تدعو إلى مائدتها. تتجوّل لغته «بخفّة الطائر ورشاقة الماء»، كتابةً حميميّة حتى في الموضوعيّة، حنينيّة مشبوبة، ينبع إيقاعها من إيقاع الفكر. ورغم تدفّقه الحار الزخّار، يرمي بدقة نقديّة وتشخيصيّة تصيب هدفها كنسرٍ خطّاف، ولا يشطح وراء غنائيّاته، بل يجعل قارئه يقبض دوماً على مادته قبضاً جسديّاً.
شوقي بزيع اليومي شخص ضاحك ساخر، وفي كتاباته تغيب السخرية والضحك، تغيب على طريقة الماء حين يغور ليلتحق بالنبع، حيث تعود العناصر مضمومةً بلا تفرقة، مجدٌ في هذه الكفّ وعَدَمٌ في الأخرى.
شفّاف الشِّعرَين، يُرقّق البلاغة فتصبح اللغة المعروفة بحرف الضاد المخيف، لغةَ المتانةِ الليّنةِ والشَّجَن الأنيس، راقصةً مجنّحة يخفي إشراقُها ألماً كما يُخفي القمرُ ظلمة السماء. وعندما ينظر في كتاب، ينبش الخير في ما يَرى حتى لكأنّه هو مَصْدَرُه.
نثرُه نساءٌ يَسْتحممنَ وراء أشجار الذاكرة، حاملاتٍ بجمَالهنَّ مفاتيحَ سجونهنّ، ضاحكاتٍ ممَّن يتلصّص عليهنّ واهماً، كما تضحك الآلهةُ من مؤمنيها».