مريانا شحادةإنّ تقويم مسار المواطنية في ظلّ الإيقاعات الإقليمية الصاخبة، قد يتطلب حيناً اتخاذ قرار أو عودة عنه، إلا أن ما يميز هذه التلونات السياسية، حكمة في ثبات المبدأ، لخدمة مشروع إصلاحي ينعتق من الأطر والحواجز الديموغرافية والطائفية والعرقية.
فهل تكون الحنكة السياسية تقمصاً لأحكام مسبقة أم تقوقعاً في عداوة لازمت أطلال حروب تعددت أسبابها ومضامينها تحت تأثير ذبذبات قطبية وسيناريوهات أميركية وإسرائيلية، كان فيها ثوار لبنان ريشة حبر تنحت بالدماء تواريخ أطماع ومصالح غربية وأجنبية في هذا الشرق العربي.
المواطنية للبعض التحاق بتيار هائج طمعاً بوعيد أو خوفاً من ترهيب، إلا أن المواطنية بالنسبة إلى من كان أول من نادى بسيادة وحرية واستقلال شرقنا الفينيقي، بصيرة نافذة وعقلانية وانفتاح في اتخاذ القرار وتصويب مسيره. هؤلاء الجبابرة هم المسؤولون أبداً عن توحيد فئاته المتشرذمة وجذوره القومية وأبعاه الوطنية.
انتقادات كثيرة نشهدها حالياً من كبار المسؤولين الذين «يعلكون» معاني المواطنية بسخريتهم الحاقدة. هي انتقادات، تهدف إلى شل لا بل كبح أية محاولة وطنية في إطار تنظيم العلاقات الفئوية داخلياً والعلاقات السياسية خارجياً، وتصحيح النهج السياسي العام للوطن.
هؤلاء من يغتنمون فرصة ذكرى استشهاد، أو أية ذكرى وطنية أخرى، ليعتلوا المنابر ويتطاولوا على قدسية مقاومة أبية وسلاح شريف. هؤلاء من يعاكسون أية رغبة بتوحيد ومزج أطراف لبنان بفئاتهم السياسية المتعددة. فلا يكفّون عن سعيهم الدائم بتعطيل الوثائق التفاهمية من جهة، وشن الشائعات والتنكيلات على غاياتها الوطنية بامتياز، واقتطاع مسافات أي تحول سياسي إيجابي لنشل معطيات الدولة الإقليمية من تأثيرات الحروب والعدوان الإسرائيلي والطمع الغربي.
مواطنيتهم المزيفة لا تدع لهم رغبة بتجربة تعمق موضوعي أو تجرد لمصلحة وطن!
والحق وطنيتهم الشخصية والكونتوناتية ليست بمواطنية.
المواطنية الحقة هي التي تتطلع إلى خرق الأطر الطائفية والفئوية. والمواطن والسياسي الصالح هو من كانت مواطنيته ثابتة على مبدأ وطني، لا تتغير بتغير المصالح السياسية والشخصية المحتكرة. فلا تكون سياسته زئبقاً لزجاً ولا طقساً متقلباً. ولكن بالفعل أية سياسة وطنية بحتة لا تكون إلا إن توسعت إلى أفق معادلات إقليمية، تخدم إشكالية ضمان وجود لبنان كمصطلح عميق ومترسخ في مواطنية الفرد، فالمجموعة والجماعة، فالمجتمع الكامل.
كما أن الثبات في المواطنية والمبادئ والقيم لا يعني عناداً وتشبثاً بالموقف. لأن عدم مطاوعة التبدلات الإقليمية، السياسية والاجتماعية والبشرية، والتحايل عليها إن تطلّب الأمر، وطبعاً في سبيل إحقاق المصلحة العامة، يكون حاصلها الخسارة والانهيار للكيان الوطني بشتى فئاته، شأن خسارة الإمبراطورية الإلمانية في العهد النازي في الحرب العالمية الثانية، بعدما كانت قد حققت إنجازات هائلة لها تأثيرها في مجرى الأحداث التاريخية آنذاك.
نتطلع في تصويرنا للمواطنية، إلى جملة من قرارات ترقبية أو تبصرية، أي بمعنى آخر إلى فهم واستيعاب أي تبدل في مسيرة النضال، قد يبدو في مجمل الأحداث مغايراً لطبيعة النشوء الفكري للمنظمة أو الحزب أو حتى المسؤول نفسه، إلا أنه في الحقيقة دبلوماسية وتصويب للهيكلية السياسية والمائدة العربية ومسيرتها الموحدة.
أعني بقولي هذا أن نعي فعالية ترميم علاقات الوطن والشعب مع دول الخارج، ولا سيما الصديقة منها، التي تنعتها أصول تاريخية مشتركة وثابتة، معطيات راسخة تتفرع إلى مخصصات ومعالم الوطن ومكنوناته. فالمواطنية الخالصة لا تعجز عن أي تنازل في الشكل، أو أية مساومة في سبيل السلم والاستقرار. فهي لا تتأرجح لصون الكرامة والمضمون بما يحفظ هوية لبنان الأصيلة بتنوع عناوينها ومقاساتها.
تبنّي المواطنية لا يتحقق إلا بتحمل المسؤولية الإصلاحية بكل فواصلها ونقاطها الأساسية: الإصلاح في العقيدة والمبدأ والمسيرة.
إصلاحنا يتطلب منا تصفية النية، لا فقط التجرد من الهوية الخاصة، بل النهوض بها والانصهار عبرها في كينونة المواطنية اللبنانية الشاملة.