الضنية ــ عبد الكافي الصمدقد لا يكون شجر اللزاب مشهوراً ومعروفاً بكثرة بين اللبنانيين، إلّا أن فضائله الكثيرة التي تتخطّى شهرته المتواضعة جعلت الكثير من الجهات تلتفت إليه أخيراً وتعي ضرورة المحافظة عليه.
في الضنية، تنشط التحركات الرسمية للحيلولة دون انقراض ما بقي منه.
فإذا كان استصلاح الأراضي بقصد استغلالها للزراعة، وتزايد المدّ العمراني، وحاجة المواطنين في المنطقة إلى الحطب لاستعمالات متعددة، ليست التدفئة أولها ولا آخرها، قد أسهمت جميعها في انحسار مساحة الرقعة الخضراء في الضنية إلى حدود دنيا، فقد كان لافتاً أن اللزاب لم يكتفِ بالانحسار، بل تقلّص وجوده إلى حدود الانقراض.
ردّ رئيس مصلحة الزراعة في الشمال، معن جمال، خلال حديثه مع «الأخبار»، أسباب تراجع وجود أشجار اللزاب، إلى عاملين: الأول «أن شروط تكاثر اللزاب صعبة للغاية، لأنها تتطلب عبور بذرته في بطن طائر يدعى «الكيخن»، الذي يأكلها ثم يتخلّص منها بعد أن تخضع في داخله لتفاعل كيميائي تكون بعدها مؤهلة للنمو»، لافتاً إلى أنه «جرت تجارب عديدة لإكثاره بطرق أخرى، ونجحنا لأول مرة في معالجة البذرة بالاستغناء عن الكيخن في مركز أبحاث تابع للوزارة في دير الأحمر، عن طريق إضافة مواد كيميائية معينة على البذرة، لكنّ ذلك لا يعوّض خسارة التقطيع، لأن هذه الشجرة تنمو ببطء شديد».
أما العامل الثاني، حسب جمال، فهو أنّ شجرة اللزاب «تحتاج إلى نحو 200 عام تقريباً لكي تتّخذ شكلاً كاملاً لشجرة ناضجة، بينما تحتاج شجرة الزيتون أو الصنوبر من 10 أعوام إلى 15 عاماً، والأرز من 40 عاماً إلى 50»، مشيراً إلى أن أهمية شجرة اللزاب تكمن في أنه «بإمكانها أن تغطّي القمم على ارتفاعات عالية، كذلك بإمكانها تحمّل حرارة عالية أو منخفضة، وهو ما لا تستطيعه شجرة أخرى، فهي تعيش حيث لا يستطيع أي نبات آخر أن يعيش، ولولاها لبقيت مرتفعاتنا فوق الألفي متر جرداء، مع العلم أن معظم جبال لبنان يصل ارتفاعها إلى ثلاثة آلاف متر. كذلك يسهم اللزاب في تسهيل تغذية باطن الأرض بالمياه؛ لكنّ مشكلته هي ضعف صيته، إذ يجهل الناس أهميته البيئيّة، لذلك تهمل شجرته وكأنها زيادة لا لزوم لها».
لكن جمال يشير إلى أن شجرة اللزاب الصلبة وذات اللون الأحمر الداكن، والموجودة وجوداً رئيسياً في منطقة الضنية وبعض أطراف منطقتي عكار وبشري، تتميز بأنها «تستطيع العيش في ظروف مناخية لا تستطيع تحمّلها أي شجرة أخرى، بما فيها الأرز، وإليها يعود الفضل في تحريج جبال لبنان على مرتفعات متاخمة للقمم العالية التي تغطيها الثلوج على مدى تسعة أشهر سنوياً، عدا عن أن شجرة اللزاب أطول عمراً من بقية أقرانها من الأشجار الحرجية، بما فيها شجرة الأرز».
ويلفت جمال ما ذكره المعمّرون من أن «لخشب اللزاب أثناء الاشتعال رائحة معيّنة، كان الأقدمون يعتقدون أنها تطرد الزواحف والقوارض والحشرات المؤذية والحيوانات البرية عن بيوتهم، فكانوا يعمدون إلى إشعال حطبه، كما كانوا يستخدمونه في بناء سقوف المنازل الترابية العتيقة».
بدوره، يوضح رئيس دائرة التنمية الريفية في مصلحة الزراعة في الشمال، غازي الكسار، أن «ما بقي من شجر لزاب في لبنان يصعب تحديد عمره، وما عرفناه من أشجاره قد يبلغ الألف سنة وأكثر».
وإذ يؤكد الكسار أن «تقطيع اللزاب كارثة وطنية وبيئية»، يوضح أن التعرض لشجره «تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب وعي المواطنين لأهميته ودوره البيئي، كما أن مأموري الأحراج لديهم تعليمات مشددة بمنع أي كان من التعرض له، بهدف الحفاظ على ما بقي منه وحمايته».


جنات عَ مدّ النظر...

يغصّ بعض كبار معمّري الضنية حين يتذكرون المشهد القديم لجرود منطقتهم. تسرح عيونهم بعيداً في الماضي الأخضر، وهم يستعيدون أمام أبنائهم وأحفادهم مشهد المناطق الجردية الذي لم يبقَ منه الكثير اليوم. ففي تلك المناطق العالية، التي يزيد ارتفاعها على 700 متر، وصولاً إلى القرنة السوداء، كانت تمتد حتى نهاية العشرينات من القرن الماضي مساحات خضراء «عَ مد النظر»، تغطّيها بظلالها الوارفة وتزيّن وعورتها. يومها، كانت أحراج أشجار الصنوبر والسنديان والأرز والشّربين واللزاب وغيرها، تتداخل في ما بينها تداخلاً واسعاً، بينما كانت الطرقات والدروب في المنطقة، الترابية بمعظمها، مزنّرة على الجانبين بأشجار باسقة ومعمّرة، في مشهد بات يندر وجوده اليوم إلا على نطاق محدود للغاية.