مباشرة خارج أسوار مدينة القدس القديمة، تمتد بيوت سلوان المصنوعة من الحجارة البسيطة أو الطوب الرمادي جنوباً لتكوّن سلسلة في واد عُرف بالحوض المقدس
اعتاد السكان الفلسطينيون العيش في ظل التاريخ والدين. غير أنه في مدينة سلوان القريبة من القدس، تحوّل التاريخ إلى لعنة. فمنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأ المستوطنون عملية «نزوح» إلى سلوان، مدّعين أنّهم يملكون حقاً توراتياً في امتلاك الأرض. فهم افترضوا أن سلوان هي مدينة الملك داوود، وكل ما يحتاجون إليه هو حفريات أثرية لتثبيت تلك النظرية. فاستولت أكثر من 50 عائلة يهودية على منازل فلسطيني سلوان، وحوّلتها إلى مجمعات سكنية وبدأت أعمال التنقيب في سراديب تحت البيوت، بحثاً عن مدينة داوود.
وإن لم تكن تلك هي أولى عمليات تزوير التاريخ في إسرائيل، إلا أنها تتمايز بتحدي المستوطنين للقانون علناً، واستخدامهم سلسلة من الأجهزة الإسرائلية الرسمية، من سلطة الآثار الإسرائيلية إلى بلدية القدس، في محاولة للوصول الى غايتهم. إن العقل المخطط لعملية السيطرة على سلوان هو منظمة تعمل في الظل وتُعرف باسم منظمة «إلعاد»، وقد أُعطيت لها السلطة المطلقة في إدارة الحدائق والمواقع الأثرية في وسط سلوان.
ومن خلال التمويل الذي يؤمنه مناصرون خفيون في روسيا والولايات المتحدة، حوّلت «إلعاد» سلوان إلى «مدينة داوود». حتى لوحات طرق المنطقة لا تأتي على ذكر القرية الفلسطينية وسكانها الذين يبلغ عددهم عشرات الآلاف. وقد أصبح قلب مدينة داوود حديقة أثرية يجري توسيعها من دون توقف لتشمل كل مرة زاوية جديدة في سلوان.
قال صيام، وكان بيت جدته أحد أوائل البيوت التي تم الاستيلاء عليها عام 1994، بعد وفاتها: «بدأ المستوطنون بالاستيلاء على البيوت حول الموقع، ثم تم إعطاؤهم موقع الحفرية الأساسي وبنوا منازل جديدة في الحديقة. وهم الآن يجدون مواقع جديدة ويسيّجون المزيد من الأراضي ويحفرون تحت بيوتنا».
وقال صيام إن تصدعات ظهرت في جدران العديد من المنازل الواقعة في حيّه، بعدما بدأت الحفريات السنة الماضية بإزالة التراب عن شبكة من مصارف المياه التي يُعتقد أنها تعود إلى حقبة الملك هيورودوس.
كان المخطط يقضي بمدّ الحفريات مسافة 600 متر تحت أسوار مدينة القدس القديمة، ولكن المحكمة أوقفت الأعمال في شباط بعدما تبين أن علماء الآثار كانوا يقومون بالحفريات من دون إجازات. رغم ذلك، بدأت إلعاد العمل أخيراً على أنفاق أخرى.
يتمحور اهتمام المنظمة الأساسي حول مدينة داوود ذاتها، وقد مُنحت السيطرة عليها سنة 1998 وفقاً لاتفاق مريب عقدته مع السلطة الإسرائيلية المختصة. وقد أنفقت إلعاد المال لإجراء حفريات في المنطقة، ومُنحت عقوداً فرعية للجهاز الأثري الرئيسي في إسرائيل، وهو سلطة الآثار الإسرائيلية، من أجل الإشراف على اكتشاف ما يبدو أنه موقع القدس الأساسي.
وقال يوناثان ميزراتشي، وهو عالم آثار سابق في سلطة الآثار الإسرائيلية: «هذا موقع مهم، ولكنّ لإلعاد مخططاً واضحاً جداً. فهي تريد استخدام علم الآثار، حتى علم الآثار الزائف، من أجل تأمين الغطاء لمخططها السياسي القاضي بطرد فلسطينيي سلوان، ويبدو كأنهم يضعون مخططاً لسلطة الآثار الإسرائيلية أيضاً».
ينظّم ميزراتشي مع عالمَي آثار آخرين جولات سياحية بديلة لمدينة داوود منذ شهر كانون الثاني، في محاولة منهم لدحض مزاعم إلعاد التي تدّعي أنها كشفت عن قصر الملك داوود الذي يعود إلى 3000 سنة، ما يجعل من سلوان عاصمة مملكة إسرائيل القديمة.
ولكن علماء الآثار المنشقين يواجهون مهمة صعبة للغاية. فقد نظمت إلعاد السنة الماضية، عبر مرشديها السياحيين، جولات لـ350 ألف سائح قصدوا الموقع. فيما الجولات البديلة لم تستقطب إلا عشرة زوار.
قال ميزراتشي: «إذا استطاعت إلعاد إقناع الناس بأن هذا الموقع كان مسكن الملك داوود في ما مضى، فسيسهل عليها تبرير الاستيلاء على سلوان وإخراج السكان الفلسطينيين منها».
وقد أعطت عالمة الآثار المسؤولة عن الحفريات في سلوان هذا الدليل حينما زعمت «أن الجدران الحجرية القديمة تعود إلى قصر الملك داوود». ولكن رافي غرينبرغ، وهو أستاذ علم الآثار في جامعة تل أبيب، كان من بين الذين حفروا الموقع في أواخر السبعينيات، وقد وصف الأعمال التي تمت تحت إشراف إلعاد بأنها «تحريف للعلم. إذ ما من دليل حسي على أن الملك داوود استخدم هذه المباني يوماً. ولا يمكن الاستنتاج إذاً بأن هذه الآثار تعود إلى الحقبة الكنعانية، أي إلى 3000
سنة».
كان عددٌ كبير من علماء الآثار في إسرائيل يشاركه قلقه علناً في الماضي. ولكن بعدما ضيّقت إلعاد الخناق على سلوان وتنامت شعبية مدينة داوود، صمتت الأصوات المعارضة. فسلطة الآثار الإسرائيلية، ذات الموازنة المحدودة، تحتاج إلى دعم إلعاد، وعلماء الآثار الإسرائيليون الذين يعتمدون على السلطة لتؤمن لهم فرص العمل، لا يتجرأون على انتقاد تواطئها مع إلعاد علناً.
في حزيران/ يونيو، عندما ذاع خبر رمي عشرات الهياكل العظمية التي تعود إلى العصر الإسلامي الأول اكتُشفت في سلوان قرب جامع الأقصى من دون التدقيق فيها، وهو خبر اعترفت به سلطة الآثار الإسرائيلية لاحقاً، واصفة ما جرى بأنه كان «حادثاً مؤسفاً خطيراً»، لم يُدلِ أي عالم آثار بتصريح رسمي عن الأمر.
وبدلاً من ذلك، تُرك لعلماء دوليين، أن يطلقوا عريضة يطالبون فيها بإبعاد إلعاد عن الموقع. ولكنّ أياً من ذلك لم يحصل، بالطبع. فمدير سلطة الآثار الإسرائيلية يؤكد «أنه ضد إدخال السياسة في علم الآثار».
(ترجمة الأخبار)