ياسين تملالي*ولم يكن ابتداع هذا البرنامج بالأمر العسير. كان يكفي استلهام تاريخ عدو الأمس، حزب الطليعة الاشتراكية (الحزب الشيوعي)، والاهتداء بنور «المساندة الانتقادية» للسير بأمان في غياهب السياسة الجزائرية ودروبها الظلماء.
وتمت عملية البرمجة الآلية بنجاح، ولم يلفظ حزب العمال عضوه الجديد. بدأ حياة ثانية بعيداً عن مطالب الماضي التعجيزية كـ«انتخاب مجلس تأسيسي» و«حل مشكلة المفقودين». وكانت الطفرة مثالاً باهراً على «نهاية الإيديولوجيات». فبعدما تحول الشيوعيون، خصوم «التطرف التروتسكي الصبياني»، إلى مطالبين بإسقاط النظام، ها هم أعداء «المساندة الانتقادية» يتخذونها مذهباً وشريعة، فسبحان مقلب الأحوال ومدخل اليمين في اليسار.
وأصبح الحزب بين عشية وضحاها يفكر بمنطق «واقعي»، كان هو ذاته منطقَ الحزب الشيوعي في أوج عزه: وحدة الوطن في خطر، علينا إذاً أن نساند وطنيي السلطة. واشتمت رائحة وطنية قديمة في بوتفليقة، فانجر وراءها قادة حزب العمال، وكانوا أشبه بفئران الأسطورة وهي تتبع صوت الناي العجيب نحو مصيرها المحتوم. «من أعداء الوطنية في جزائر الألفين»؟ تساءلوا، وأجابوا دونما طول تفكير: «بعض الوزراء» (لا كلهم طبعاً، حاشا، معاذ الله). «ومن هؤلاء الوزراء؟» «حميد تمار، وزير الاستثمار وشكيب خليل»، وزير الطاقة. «ومن عينهما في منصبيهما الحساسين؟» «بوتفليقة، ولكن بضغط رهيب من الأميركيين. بُسِّط التحليل السياسي (ليصبح في متناول الجماهير؟) ونسيت النظريات الذكية عن «تعقد تشكيلة النظام».
وعندما أيد الرئيس جهاراً وزيريه وبارك عزمهما على خصخصة كل شيء، بما في ذلك الخدمات، بما في ذلك المحروقات، استمر حزب العمال في دعمه له لعله يمسه هدي من الله ويتصدى لمساعديه الخائنين. وعندما قرر، في 2006، مراجعة قانون المحروقات الجديد بما يمنع تغلب الرأسمال الأجنبي على القطاع البترولي، هللت لويزة حنون أيما تهليل. رأت أنّ المراجعة نصر على الأميركيين ــ وكانت على حق ــ ولكنها رأتها أيضاً دليلاً على أنها لم تخطئ، إذ توسمت في بوتفليقة حب القطاع العام.
هزم وزير الطاقة وقضي على مشاريعه الكومبرادورية، قالت، ولم تعلق على بقائه في منصبه بالرغم من تغير الحكومات.
وتجلت «واقعية» حزب العمال تجليات عديدة أخرى منذ سنة 2001. عندما هوجمت النقابات المستقلة من طرف الحكومة وقمعت تظاهراتها وحوكم مسؤولوها، همس قادته بأن هدف هذه النقابات «تفتيت الطبقة العاملة» واستغلوا ليبرالية بعضها لينعتوها كلها بـ«الليبرالية» و«النخبوية» وغيرها من الأوصاف. واستمروا في دعم قيادة الاتحاد العام ضدها، باسم «الوطنية» دائماً و«الدفاع عن وحدة الشغيلة» أبداً. ولم يثنهم عن ذلك أن جلّ أعضاء هذه القيادة أعضاء في الأحزاب الحكومية ونواب في البرلمان لا يعصون الرئيس ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وعندما اندلعت اضطرابات 2001 في منطقة القبائل، وكان سببها مقتل شاب برصاص الدرك، لم يطالب حزب العمال بمحاكمة الجناة. قال «إن الأمة مهددة» ودعا إلى «الوقوف في وجه الانفصاليين» واستحضر ذكرى البلقان وأفغانستان قبل أن يهبه الله بحكمة منه مثال العراق الحي ليستغله في خطابه الوحدوي.
وعندما استمر بعض الأمة (أي الدرك الوطني) في التنكيل ببعضها الآخر (الشباب المتظاهر)، لم ينبس ببنت شفة واكتفى بالدعوة إلى «تفويت الفرصة على أعداء البلاد»، بل جعل من هذه المقولة شعاره في انتخابات 2004، راطناً ــ يا للعجب ــ برطانة حزب جبهة التحرير.
هذا حزب العمال، للأسف الشديد، منذ سنين طوال. نيات لا شك في نبلها في خدمة النظام وتاريخ من النضال يهدى لسلطة فقدت كل صدقية. «حماية الأمة من التدخل الإمبريالي» تبرر دعم بوتفليقة و«حماية وحدة الطبقة العاملة» تبرر مساندة قيادة الاتحاد العام، عميلة السلطة داخل هذه الطبقة، و«حماية الجزائر من الانفصاليين» تبرر الصمت عن رمي المتظاهرين بالرصاص. بالنظر إلى كل هذا الميراث، لم يكن مستغرباً أن يتساءل الحزب في الشهور الأخيرة بمنطق سليم: كيف ندافع عن الوطنية ولا ندافع عن حرية ترشح «الوطنيين» للانتخابات؟ فانبرت لويزة حنون تساعد أحباب بوتفليقة في الذود عن حقه المهدور في الاستمرار في حب الجزائريين.
ماذا يؤمل من حزب العمال اليوم؟ لا شيء، سوى أن يراوح مكانه ولا يدخل مرحلة أخرى من مراحل «المساندة الانتقادية»، مرحلة المشاركة في الحكومة مثلاً، كإسلاميي «حمس» والتصويت معهم على قوانين «الرئيس الوطني» باسم قاعدة «تفضيل أحلى الأمرين».
* صحافي جزائري