هشام نفاع *فجأة، شدّني التعبير وكأنّني أسمعه للمرة الأولى: الخط الأحمر. كنت في نقاش سياسي لم أكن طرفاً أساسياً فيه. ربما أملاً في متعة الإصغاء، إحدى أندر الصفات في القرن الواحد والعشرين. ولكن الانعطافة حدثت حين استعمل أحد المتناقشين ذلك التعبير في سياق المسموح والمحظور في السياسة. ولا أدري لمَ قلت فوراً إن هذا التعبير لا يُستعمل إلا حين يُنتهك. ففي الأيام العادية، لا يحتاج الجسم السياسي لاستلال الخط الأحمر وتوظيفه، على اعتبار أنه جسمٌ يسلُك وينشط وفقاً للمتوقّع منه، استناداً إلى معرفة جمهور المشاهدين (وتلك القلّة من المراقبين) بطروحاته الأساسية المُعلنة.
ربما يجب الانتباه إلى أنه حين يلفظ معظم السياسيين هذا التعبير، يجب زيادة منسوب الانتباه فوراً إلى موقع الخط الأحمر. ظننت في البداية أنه حين أسمع هذا التعبير، يتوجّب عليّ أن أراقب بعناية ما سيأتي لاحقاً. أي أن الخط الأحمر سوف يُزاح بعد قليل. لكني لاحظت في ما بعد أن المسألة أكثر تعقيداً. فالحديث السياسي عن الخط الأحمر يُستعمل بالذات حين يكون قد أُزيح فعلاً عن مكانه الافتراضي المتوقّع.
يبدو أن مصدر التعبير ليس من عالم السياسة بل من الميكانيكيات. وهو النقطة القصوى التي لا يعود فيها «الشدّ» على المحرّك الآلي آمناً. لأن أية زيادة في «الشّد» سوف تؤذي أحد مركبات المحرّك.
هنا، سيمثّل انتهاك الخط الأحمر مخاطرة حقيقية، بهذا القدر أو ذاك. ولا مكان هنا للفهلوة ولا للفرتكة ولا للشطارة نفسها (ما هي الشطارة؟ هي أن يخدع الشاطر الآخر دون أن يشعر بينما يشعر هو، والحبور يملأه بإحدى نشوات الانتصار، في تجاهل كامل لعنصر النذالة المتمثّل بالكذب والخداع في ما أسعده). وعليه وجب الانتباه: كل حفنة زائدة من الشطارة ستحرق لك المحرّك وقد يحرقك معه. لاحظوا كيف جاءت نتيجة شطارة واشنطن وأصدقائها من فلول العرب!
لكن المصيبة تكمل في عالم الكلام السائل. عموماً، السائل أرقى من الصلب: فهو ليّن، قادر على التأقلم مع المتغيرات. وبمعنى ما، هو ديموقراطي. وخلافاً لما قد يتبادر للذهن، فهو ليس هلامياً عديم الثبات. بل إنه الثابت المرن. يجمع الصفة ونقيضها، ويتصرّف كتوليفة ترتقي فوق نقيضيها المتصارعين. لذلك، فالسائل حكيم. ومع هذا، فلا حاجة لأخذه باستهتار. لأنه قد يصبح خطيراً وقد «يشجّ»...
مثلاً: تخيّلوا ليتراً من السائل المتجمّد يسقط على رأس أحدهم من ارتفاع 5 أمتار. لن يكون خطيراً فقط بل قاتلاً. ولنلاحظ: متى يتحوّل السائل إلى قطعة جليد كالصّخر؟ حين يُضغط. نصيحة مجانية: يجدر بجميع هواة ممارسة السلطة المفرطة بفهلويّتها الانتباه إلى هذه الميزة الطبيعية في عالم السائل، في خضمّ انخداعهم بظنّهم أن المرنين الليّنين سيظلون هكذا «على طول»!
بطبيعة الحال، انتقل استخدام الخط الأحمر إلى عوالم غير الميكانيكيات. وهكذا حلّ في السياسة. يجب القول استدراكاً إنه لا سياسة واحدة. بالأحرى هناك سياسة لا تتنازل عن مصطبة الأخلاق، وأخرى تهرب من هذه المصطبة بالذات.
هناك سياسيون قد تختلف معهم على 100% من المواقف، لكن شيئاً ما فيهم يظلّ يثير لديك الاحترام. وللأسف فالعكس صحيح: قد توافق مع 100% من مواقف آخرين، لكنك تحتاج إلى بذل جهد غير قليل حتى تطيقهم.
ليست المسألة شخصية، ولا شخصية هذا أو ذاك. فالمواقف عموماً صارت تُقاس صوتياً في عصر «الظواهر الصوتية»، أي في حدود التصريح والفصحنة المقعّرة التي تعجّ بمصطلحات لا تفتقر سوى إلى معانيها! ما يضيع هنا هو الانتباه إلى الممارسة أو بالأحرى إلى شكل الممارسة. معروف أنه يمكن تحقيق هدف سياسي نبيل بوسائل حقيرة، هذا ممكن نظرياً. لكن الهدف سيكون قد تلطّخ بوسائل صنعه فيصبح ضحية صانعيه وصنيعهم. هنا، لدى هذا الصنف من ممتهني السياسة، سواء وافقتهم أو عارضتهم على المستوى الصوتي، يتحوّل استخدام الخط الأحمر إلى مادة سائلة لا تتسم بصفات السائل المحمودة أعلاه، بل تتميّز عموماً بسوء استخدام ميزات السائل.
تسمع أحدهم يجعجع «هذا خط أحمر» و«ذاك خط أحمر»، فتهرع إلى إجراء مسح طوبوغرافي خاطف لمساحة الحدث، وتكتشف أن الخط الأحمر نُقل أمس (أو قبل أسبوع، لا فرق) ليلاً إلى غير مكانه الذي عوّدوك عليه.
المنطق بسيط: لا يحتاج الفهلوي لذكر الخط الأحمر هكذا دون سبب. وحين يتفضّل بذكره يكون في حالة دفاعية عن فعلته الفهلوية التي أزاح فيها الخط الأحمر وانزاح معه «عالسُّكَّيت»، لكنه يستعمل هذا الخط بالذات وبصفة المُدافع عنه كي يظلّ بمظهر النقي الأبديّ.
يتفق الثوريون على أن الخطر في مسخ السياسة بغلاً يُمتطى لتحقيق المصالح الذاتية الوضيعة، يكمن في تنفير الجماهير من السياسة، وبالتالي تقليص إمكان تجنيدها للنضالات السياسية لتغيير ظروفها. وما دام الرجعيون على أنواعهم هم من يمارس مسخ السياسة بغالاً، ظلّت بيد الثوريّين قوة طرح البديل والإشارة إلى الفروق الحقيقية بين طرحين.
لكنّ تفشّي سوء استخدام سيولة الكلام، لدى بعض من يضعون على صدورهم شارات الثورية أيضاً، هو ما يجعل ذلك الخطر أعلاه أخطر فأخطر. في عصر ما قبل إعلان «نهاية الإيديولوجيات»، كان التمسّك بالمبادئ والمبدئية مثار فخر لدى أصحابها، ومدعاة للسخرية لدى خصومهم السياسيين والاجتماعيين. ولكن منذ صارت الفهلوة والشطارة وسائل شرعية شديدة الانتشار (والانشطار) حتى في فضاءات ورَثة الإنجازات الثورية (وإخفاقاتها)، فإنّ من لا يخجل بالمبدئية ـــ ولا يحمرّ وجهه أو قفاه حين يُقال له باستهزاء: «بعدك على المبادئ يا خيّ؟» ـــ تحوّل إلى مادة للتندّر لدى الثوريين الفهلويين أنفسهم.
هنا، لا يكون الخط الأحمر قد انتُهك. لا. هنا يكون قد فقد لونه، حيث يُصبغ يومياً وفقاً لما يتلاءم مع اللون الطاغي في بورصة الموضة المتخففة من ثقل المبادئ. هناك شخص مسكين في هذا المعمعان: الرفيق كارل ماركس! لم تعد المشكلة أن حشوداً من مقتبسيه لا تكلف نفسها التقاء أفكاره «مرة في السنة» على الأقلّ، بل باتت الصرعة اليوم الصراخ بالتقريع في وجه كل من يجرؤ على القول: ولكن ما علاقة ثرثراتكم عن الماركسية بممارساتكم الفهلوية؟
أمام هذا الوضع غير الرائع بالمرّة، هناك لون واحد يجب الحفاظ عليه، إلى جانب الأحمر، في سياق السياسة. إنه اللون الرمادي، لون الجندي المجهول. فهو النقيض الثوري في وجه طيف ألوان النيون التي تُغشي الأبصار دون أن تنتج شيئاً فيه ما «ينفع الناس»...
* كاتب فلسطيني