من لم يصادف يوماً ذلك الرجل السبعيني بشعره المنسدل وهو يطوف بآلة الأكورديون حول طاولات الزبائن في مقهى أو بين المارة في شارع، يرافقه خمسيني يحمل غيتاراً، يوزعان الفرحة على من يحيط بهما؟ أب وابنه نادتهما الموسيقى، فسلكا الليل ذاته وعشقا أهله
رنا حايك
بين الوالد وابنه ألحان كثيرة. ابتسامة سمحة لا تفارق ثغريهما، وذكريات درب طويلة اتفقا على سلوكها معاً، لم تكن أوّلها علاقة الدم التي تربطهما، بل شغف واحد بالموسيقى نادى كلّاً منهما في سن مبكرة.
تلمع في عيونهما بذرة تواطؤ حميمي لذيذ لا أثر فيه لأي عقدة أوديبية من تلك التي يحلّل من خلالها خبراء التربية المعاصرون كل علاقة من هذا النوع. يتذكران ذلك اليوم الذي كانا متوجّهين فيه إلى زحلة لإحياء عرس، فأوقفهما عنصر على أحد الحواجز الأمنية في شتوره طالباً منهما العزف، غير آبه بأصوات أبواق السيارات التي تعالت في الخلف احتجاجاً عندما طالت الوصلة لنصف ساعة. «غلطت وبلّشت يومها بأغنية آه يا زين، وكرّت سبحة الأغاني»، يقول إيلي، الأب، ضاحكاً.
لم يتضايق الرجلان من طلب العسكري، فقد اجتمعا منذ البدء على حبّين: الموسيقى والناس.
لا تدخل السياسة ولا الطائفية ولا أيّ من الدوامات التي يغرق فيها المجتمع اللبناني ذلك البيت الدافئ في الأشرفية.
لوحات وأيقونات الابنة إيفيت تزيّن الجدران. ورغم نباح الكلبة العالي وطفلتها الحديثة الولادة «لأنهن شموا ريحة حدا غريب في الصالون» كما تقول نهاد، زوجة إيلي، تملأ المكان موسيقى صامتة مهدهدة، تتسرّب إليك من القماش ذي اللون الترابي الذي يكسو الكنبة، من الراديو الترانزيستور المطفأ، ومن شمس كانون التي تصل خيوطها عبر باب غرفة النوم المفتوح المؤدي إلى الصالة. يشير إيلي إلى الراديو بإصبعه: «اشتريته من يومين فقط من بائع تحف في حي النبعة. فأنا أهوى جمع التحف، وخصوصاً الساعات. لديّ حوالى ستين قطعة منها».
لا أبواب مغلقة في ذلك البيت البسيط، «لا أحب العابسين»، يقول إيلي الذي بحث منذ طفولته عن الفرحة في قلب الليل، فاقتحم ظلمته بنغمات شرقية وغربية درس أداءها وحده، منذ سنوات الدراسة الأولى في الفرير، حين «كمشني الرّيس عم دق عالبيانو، فقال لي إنت موهوب».
من حينها، اشترى الصبي كتب التعليم الذاتي، ودرس النوتات، واستأجر بيانو من محلات شاهين في باب إدريس ليتمرّن عليه، رغم معارضة أبيه، صاحب محل الأقمشة في شارع اللنبي.
لكنّ إيلي نجح في إيجاد تسوية. نال دبلوماً في المحاسبة، وساعد أباه في المحل نهاراً، بينما رافق صديقه عازف الكمان ليلاً للعزف في «بار مترو» في الزيتونة. لكنه لم يسمح للتاريخ بإعادة نفسه بعد ذلك بأعوام، حين قرر ابنه فيكي ترك المدرسة والتفرّغ لعزف الموسيقى. فحين اكتشف نزعة ابنه إلى الموسيقى، لم يعارضها، بل على العكس، شجّعه على تكريسها، ليصبح رفيق لياليه.
«كنت كسلان. فوت عالمدرسة من الباب، نطّ من الشباك»، يقول فيكي، الذي كان يقتنص فرصة تمرّن والده على الأكورديون في المنزل ليسحب علبة الآلة الفارغة ويدقّ عليها بعض الإيقاعات.
كانت العائلة في مصيفها في برمانا حين اشتري فيكي الغيتار وبعض الكتب، مستفيداً من نصائح أبيه وإشرافه، ليتعلم العزف بدوره. السيناريو ذاته تقريباً استعيد، ولكن بدل محل الأقمشة في باب إدريس، محل خياطة في الجعيتاوي، تحوّل بعد فترة إلى «وان دولار شوب»، ولا يزال حتى اليوم.
لفترة، نسج الثنائي الملابس في النهار والألحان في الليل. بعدها، باعا «حراتيق» رخيصة. لكنّ الطقس الأساسي ظلّ ثابتاً حتى اليوم، العزف ليلاً في المطاعم وفي الأعراس وأعياد الميلاد، ومناسبات أخرى يتندّر الثنائي بطرافتها.
إحداها يوم طلبت منهما والدة إحدى المريضات انتظارها وهي تخرج من غرفة العناية الفائقة ليعزفا لها: «الحياة باللون الوردي» الكلاسيكية (للمطربة الفرنسية إيديت بياف). يومها، توقّف الأطباء عن العمل لبرهة، واحتشد الممرّضون وأهالي المرضى والمريضة التي «برزقوا عيونها لما شافتنا وكانت بالكاد واعية»، وعادت وزارتهما بعد تعافيها لتشكر لهما ما بثّاه في نفسها من فرحة في تلك اللحظات. أما الواقعة الأخرى، فهي ما يكاد يكون «اقتحاماً» قاما به لغرفة نوم أحدهم بناءً على طلب حبيبته التي أرادت أن تفاجئه صباح يوم عيد العشاق بأب وابنه يعزفان فوق سريره عند السادسة صباحاً لحن الحب الكلاسيكي الذي أهدته إياه «لوف ستوري». لا يعتبر الثنائي ذلك عملاً بقدر ما يعتبرانه متعة. فالشرط ليس مادياً، أي بحسب ما يدفع الزبون، ولكن بحسب ما يفرحان بالعمل وسط أناس يفرحون بهما بدورهم.
طبعاً «يتشارعان» في بعض الأحيان: فإيلي يتذمر كثيراً خلال قيادة فيكي للسيارة. وخلال الأماسي الجميلة، حين تدور الكحول في الرؤوس وتدوخ الأرواح بالألحان، حينها «يدبّل فيكي بعينيه للصبايا» فيعود الأب أباً ويؤنّب الولد «اللي غرامياتو كتيرة متل أي موسيقيّ آخر» بنظراته التي ترفض التواطؤ في هذا المجال. فخلال ستين عاماً من الزواج، لم يخبّئ إيلي أيّ تفصيل عن نهاد، التي تزوجها عن حب، يوم رآها لأول مرة ترقص رقصة «السوينغ» خلال حفل عمادة ابن أختها.
«جسمها حلو ووشها حلو ورقصها بيجنن» كما يخبر، لافتاً إلى أنها كانت قد استحقت يوماً «جائزة من الفرنساوية عن رقصة أدّتها هي وأخوها». لكن غراميات فيكي الصبيانية التي تقتصر على نظرات الليالي الساحرة ليست خطيرة. فهذا الثنائي قد اقتحم الليل بطيبة وإنسانية دون أن يتدنّسا بصخبه المجنون أحياناً، وكوّن الاثنان، المنسجمان مع نفسيهما وفنّهما، عائلة في قلب العائلة، فرزق فيكي بإيلي صغير لن يقف أمام طموحه في دراسة السينما لاحقاً. لم يعلّم إيلي الموسيقى لابنه فيكي فقط. فبعد أن درسها بنفسه، أصبح يدرّسها لأطفال في بيوتهم. «الإحساس هو الأساس. قد يشتري بعض الأهالي لأبنائهم بيانو يركن في الزاوية ولا يعلّمهم إذا كانوا يفتقرون أصلاً إلى الإحساس الفني».
والإحساس يرتبط دائماً بالرغبة الحقيقية في العيش، لا مجرد العيش، بل في «فن معرفة العيش» والتلذذ بلحظاته. الرغبة في العيش التي كانت تدفع إيلي وفيكي إلى العزف يومياً «وين ما هربنا خلال الحرب»، وهي التي كانت تدفع بـ«السهّيرة» إلى أن «ينبسطوا أكتر من سهّيرة اليوم، وخصوصاً إيام ما كنا ندق بمطعم واكيم خلال الحرب، ونسرّب بعدها عالبيت تحت القصف». لذلك هو إحساس غير مشروط بزمن، ولا ينتهي، بل تستمر رحلته «طول ما عم نتنفّس» كما يتفق الاثنان.


أول مرة...

كان فيكي لا يزال طفلاً حين عزف للمرة الأولى مع والده في إحدى السهرات، وأمام طاولة.. كمال جنبلاط. «إجا الميتر وقاللي، مش عيب يعزف ابن 12 قدّام البيك؟»، كما يذكر إيلي. لكن «سولو» الولد سرعان ما أذهل الميتر، وخصوصاً أن البيك «شال 50 ليرة وناولني يّاها. مبلغ عمرها ما قبضتو الفرقة كلها على بعضها»، كما يقول فيكي.