سارة أسعدمن الخارج نحو الداخل، كما تُكتشف كلّ الأشياء الجديدة، وكما أوصتني مدرّسة أحبّها. حرف من الأبجدية، ينهي اسماً مؤنثاً، مدوّر كرغيف، تستقرّ فوقه «شخطة»، تحمي قرعته من المطر الخفيف. تاء مربوطة من زمن الحروف الجميلة، اتخذت مقرّاً لها في الطابق الأوّل في شارع البافيون ـــــ الحمرا، على أعلى بوّابة زجاجية تستقبل الزائر بشكل يشبه «الغمزة»، فلا نعرف هل درْس القواعد في الصف الثالث عاد يلاحق كسَلَنا أم أنّها دعوة ضحوكة للدخول والاستمتاع في المكان؟
في الداخل حميمية وألفة خاصتين بروح الأماكن، البار الأليف، النّادل الصديق، وطاولات وكراس من الخيزران والقشّ، مثل «بيت ستّي»، مثل صورة «القهوة عالمفرق» كما ترتسم في لاوعينا الجماعي المتّخذ لحناً قديماً خشبة لبهلوانياته.
زوّار المكان زبائن وعابرون، متنوّعو الأعمار والانتماءات، كأنّهم جزء من الصورة في مقهى بيروتي أيّام الستينيات. للجميع طاولة، الصحافيّ الخمسينيّ أمام كدسة الأوراق العذراء قبل أن تهوي السنونوة في رماد الجيتان انترناشيونال، المفكّر الشّاب، ناقداً فنيّاً في صفحة ثقافية في جريدة ذات ميول يساريّة، متجهّم الوجه دائماً ـــــ لزوم اليسار المثقّف ـــــ، شباب الفنون الملتحون فلا يتبيّن الناظر إليهم هل هم «الميادين» هربوا من الزمن أم هو مجرى الأمور المعتاد في السّنة الأولى ـــــ مسرح؟ والصبايا المجتمعات للنميمة على التي «تحجّجت» بأمور تافهة للتغيّب، يعرّين النُّدل واحداً تلو الآخر في عجقة فانتازمات لا تنتهي.
يستضيف المكان فرقاً موسيقيّة مبتدئة أحياناً، تأتي مع جمهورها، وللّيالي «الرايقة» أم كلثوم وعبد الحليم ووردة الجزائرية تصدح على وقع حبّتي زهر من زمن سفر برلك ترقصان بخفة على طاولة مطعّمة فتفرح بنت جميلة: غلبتَك، شاش باش. يستقبل المكان أيضاً عروضاً لأفلام طلّاب ومحاضرات في مكتبته الصّغيرة، حيث تفيض الكتب والمراجع من الرّفوف نحو صناديق البيرة الموضوعة أرضاً. ترتدي الحيطان الواسعة لوحات تتغيّر دورياً لكنّها لا تنوب عن الشّبابيك المفتوحة على الشّارع أيّام «الصّحو».
يتناول الزائر طعاماً لبنانياً في ة ـــــ مربوطة، عروس لبنة أو جبنة مع الشّاي صباحاً، مطّلعاً على آخر الأحداث الثّقافية في البلد. ومساءً، تتنوّع لائحة الطعام، وتحوي سلطات، مازة لبنانية، أطباقاً كلاسيكية وحلويات، دون أن ننسى المشروبات المنوّعة، متوسّطة الأسعار والجودة، مكمّلة لجوّ الحانة، وهو العنصر الأساس في المكان.
لكن مهلاً، لا تكتمل التجربة في ة ـــــ مربوطة قبل الوقوف قليلاً أمام «زمن الأبطال»، ماكينة الفليبّر الشهيرة، مبنية على مفهوم الحرب الأهلية اللبنانية، فيها الأبطال أمثال مار شربل، الإمام موسى الصّدر وغيرهما، وفيها «الزعران» كـ رون أراد وعبّاد الشّيطان. على اللّاعب أن يغلب الأشرار بقوّة غرندايزر ويدخل آلة الزّمن متحاشياً خانة تبييض الأموال و«ليلة ما فيا ضوّ قمر».
ة ـــــ مربوطة مكان يشبه اسمه، فضاء مدوّر ببساطة متناهية، يرى الزّائر وجه نفسه في محيطه، ويتّقي «بشخطة» من كلّ أنواع الأمطار.