رائد ملاحكنت قد منّيت نفسي أن تكون ليلة الاثنين الماضي مكمّلة للأمل الذي لا يزال يمثله المشروع الاجتماعي والسياسي الكوبي بالنسبة للشعوب الفقيرة في هذا العالم. فقد دعتنا جامعة القديس يوسف إلى قاعة «بيريت» لحضور العرض الأول للفيلم «الحياة صفير»، بحضور مخرجه الحائز الكثير من الجوائز: فرناندو بيريز. فبعد أول رحلة لي إلى كوبا، حيث كانت تلك المرة الأخيرة التي تمتعت فيها بمشاهدة القيم العالمية الرائعة للسينما الكوبية الثائرة، اندفعت فتكلّفت وأجلت ورتّبت مواعيدي والتزاماتي من أجل إغناء الفكر والروح، مرة أخرى بحلم كبير حققه الكوبيون.
وكانت المفاجأة قاتلة. فـ«الحياة صفير» ينقلنا بطريقة فجة إلى الواقع الحالي الكوبي «المزعوم»، الخالي من القيم، والمليء بأوهام عمياء، حيث غابت الجهود والتضحيات وعمّ الحزن والندم.
يظهر لنا شوارع متهالكة ومشوّهة ومهملة أنتجتها خمسون عاماً من مقارعة قاسية مع أقوى أمبراطورية على الأرض، ولكن للأسف لم يكلف المخرج نفسه بتوضيح ذلك. فغابت الموضوعية كلياً عن عمله الفني السوريالي هذا، حتى تخطى الحملات التشويهية للعملية الثورية في كوبا من خلال تعتيمه على الجوانب المشرقة والمعترف بها عالمياً، لا سيما في حقل الصحة والتعليم والتضامن الأممي والحس الوطني والإنساني في كوبا، حاصراً رسالة فيلمه بالجوانب السلبية التي لم تخلُ من المبالغة بوحي من سورياليته، فاختزل الواقع الكوبي وغطاه بلاواقعيته.
فرناندو يبيّن لنا في فيلمه عالماً بدون أي مخرج سوى التراجع والندم، وواقعاً ليس من مسؤول عنه سوى كوبا نفسها.
أما نحن في لبنان، حيث نواجه كل أنواع الحروب والمؤامرات من جانب أعداء الشعب الكوبي أيضاً: الإمبريالية والصهيونية، فلسنا بحاجة هنا لهذه الرؤية القاتمة واليائسة عن كوبا، لأن الصحافة العالمية الغربية وأصحاب الأموال قد تمكنوا بما فيه الكفاية، من جعل الكثير من شبابنا، بمن فيهم بعض الملتزمين سياسياً، يقارن كوبا بأسوأ الأمثلة، بحيث يطلقون الكذبة تلو الأخرى حتى يعتّموا على فضائل هذا النموذج.
أتساءل كيف يُطلب التضامن مع كوبا من جمهور قدم إليه فيلماً يحمل رسالة كهذه. هل المطلوب هو التضامن مع كوبا على قاعدة واقع يعكسه «الحياة صفير» أم لتمكين الشعب الكوبي من الانقلاب على «والدته الأم كوبا». فالتضامن الذي تطالب به اليوم شعوب العالم بأسره هو مع ثورة قدمت مثالاً عالمياً لن تقوى على محوه أعمال فنية تنقصها الموضوعية كهذه، ولا بنشر غسيلها أمام الرأي العام العالمي، ففيلم كهذا مجلبة للإحباط.
ولكن الرجال الرجال في كوبا لا يزالون هناك وفي أي مكان، يتحدّون، يواجهون، ويؤمنون بأن الزمن يداوي أي تمزّق أو شائبة. نراهم ينتقلون من طاولة حوار إلى طاولة حوار أخرى، من ميدان إلى ميدان، من معركة إلى معركة، من تحدّ إلى تحدّ، ينقلون حقائق لا يريد البعض أن يسمعها.
فلا الأفلام، ولا الأغاني، ولا القصائد الهجائية سوف تقضي على حلمي هذا. ولا حتى مشهد ساحة الثورة في هافانا وهي مقفرة وغارقة في المطر كما أظهرها «الحياة صفير» سيجعل اليأس يسكنني، فسوف تظلّ الساحة المزدحمة دائماً، يملأها شعب قبل التحدّي وواجه واقفاً ومضحّياً على مرّ التاريخ كما عرفه العالم أجمع. هي ساحة ينبغي تحويلها إلى مكان يحجّ إليه كل الثوار والأحرار في هذا العالم ولو مرة واحدة في السنة.
ومع تسليمنا بأن العملية الثورية في كوبا على مدى خمسين عاماً رافقتها أخطاء وسلبيات كثيرة، إلا أننا في زمن تسقط فيه أحادية القطب الواحد وتشهد العولمة والغطرسة الأميركية هزائم وأزمات جمّة، كان أولى بأن تكون مشاركة كوبا في هذا المهرجان مساهمة في رفع معنويات الشعوب التي تخوض اليوم أشد مواجهة لها مع عدو هذه الثورة الكوبية الملهمة، ليس فقط بالنسبة لشعوب أميركا اللاتينية بل للعالم أجمع، وهي اليوم، بالرغم من التحديات والاعتداءات والأعاصير، تتهيّأ للاحتفال بالذكرى الخمسين لانتصارها بعد أيام عدة.