ريمون هنّودكل أمير من أمراء الطوائف في لبنان يعطي تعريفاً خاصاً به عن موضوع اللامبالاة أو الحياد. والتعريفات غالباً ما تأتي حسب الوضع الشخصي السياسي الذي يعيشه كل أمير. ولكن عموماً، إن أكثر ما يتسبّب بالضرر لوطن مثل لبنان «الذي بات على قاب قوسين أو أدنى من بلوغ مرتبة الاحتضار، جراء النزف المتواصل منذ عقود عدة نتيجة الحالة المذهبية السامة التي تواصل بضراوة فتكها بالعقل والجسد اللبنانيَين»، هو استمرار تنامي موجة ما يسمى باللامبالين بالتزامن مع استمرار تنامي الطائفيين وتكاثرهم. فمما لا شك فيه بأنّ اللامبالين ييمثّلون بمواقفهم «الهمودية» (وأسمح لنفسي باستعمال مصطلح الهمود لأن الهمود هو حالة مزاجية غالباً ما ترافق هذا الصنف من البشر، وهي أكبر سند للحالة الطائفية المذهبية الإقطاعية الطبقية) ضحية تنشئة اجتماعية بيئية خاطئة أسوة بحالة الطائفيين الذين بدورهم تلقوا تنشئة سقيمة تفتقر إلى الحسَّيْن الوطني والقومي.
ولكن السؤال المطروح: ما هو المطلوب لوضع القطار على السكة الصحيحة؟ حالياً وفي ظل انسداد أفق التغيير الديموقراطي نظراً لغرق البلاد في أتون جحيم مسدودة مداخله ومخارجه بشلالات وأمواج من النيران الانعتاقية المتخلّفة، فإنّ أفضل سبيل للخروج من هذه الأودية الجحيمية التزمتية هو الشروع الفوري في حل العقد عقدة عقدة، ولو استلزم حلها وقتاً ليس بالقصير، فلسنا أفضل من العصافير التي تبني أعشاشها بخطوات بطيئة إلى أن تدرك البناء المتين. ولسنا أفضل من النمل المجتهد الذي يبلغ في نهاية المطاف مراده بنجاح تام.
إن اللامبالاة في بلد نسيجه الاجتماعي فسيفسائي طائفي، من الطبيعي أن تكون مردوداتها سلبية ضارة هدامة إلى أقصى الحدود في وطن يشعر كامل الشعور بأن مرحلة لفظ أنفاسه الأخيرة قد دنت جداً منه، وهو يتوسل بشدة إلى أبنائه راجياً منهم إقالة عثرته وإنهاضه من كبوته المزمنة بغية إيصاله إلى شاطئ الأمان.
ولكن حسابياً ومنطقياً، كيف يريد الوطن من أبنائه إنهاضه من كبوته والأبناء بسوادهم الأعظم مصابون بالكبوة المزمنة عينها؟ والمنطق الصحيح هنا يجزم جزماً قاطعاً بأن كبوة الوطن من كبوة الأبناء. الجواب بسيط والحل أبسط، إن المسؤولية ملقاة على عاتق الخميرة الباقية في هذا الوطن.
هذا الوطن الذي يرى بأمّ عينيه التحضيرات الأخيرة الممهّدة للقذف به في مثواه الأخير، وهو في حالة لا حول ولا قوة له. مَن هي هذه الخميرة؟ بالطبع إنها تلك الشريحة العلمانية الباقية، شريحة قد تمثّل اثنين في المئة أو خمسة أو سبعة. ليس المهم النسبة، بل المهم أن تتمكن تلك النسبة من استئصال الورم لعلنا ننجح في إنقاذ المريض، وإنعاش آمالنا بالحياة. فأن نرى أجيالاً ولدت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والحس الطائفي يغزو فكرها، إنما هو أمر طبيعي، فهي أجيال ولدت من أرحام طائفية وارتشفت في سن الرضاعة حليباً طائفياً، فنمت وترعرعت في أجواء طائفية ولم يكن هناك من حاثٍّ لها على التمرد الفعال بغية الإصلاح والتغيير. فمن الطبيعي أن تغزو عقولهم الأفكار الطائفية المصابة بأدران والتهابات فئوية خبيثة. فآباؤهم من أجيال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وأجدادهم ولدوا في أواخر القرن التاسع عشر. صحيح أن الأجداد ولدوا في عصر النهضة، وهنا أرفع القبعة تحية وإجلالاً لرواد عصر النهضة الذين، بكل ما للكلمة من معنى، أدّوا قسطهم للعلى، وعلى رأسهم شبلي الشميّل وفرح أنطون وأحمد فارس الشدياق والنبي جبران خليل جبران وغيرهم، فمسحة الكآبة لم تفارق وجوه هؤلاء الجهابذة الكبار، حتى قبل ثوان عديدة من الفراق. لم تفارق وجوههم بسبب إدراكهم أنهم لم يستطيعوا النجاح في التلمذة الكافية بسبب تأجّج نيران شرور التزمّت والعصبيات. وأرواحهم ما زالت حزينة لرؤيتها من عليائها تلك النيران على تأججها المستمر حتى الآن، وحتى الآن ما من فالح في الإخماد. ولكن فرصة سانحة ما زالت تلوح في الأفق ويتعين استغلالها من جانب الأجيال الصاعدة عبر الشروع بإضرام نيران التغيير، والقيام بثورة فكرية تحرر الوطن من محتلّه ومغتصبه الأساسي «الطائفية» التي كانت عبر السنين الباب العريض الذي ولج منه الغزاة والمستعمرون.
وكم هو مفيد لأجيالنا الصاعدة الانكباب على قراءة كتب العمالقة المذكورة أسماؤهم أعلاه. إن الفئات العمرية الشبابية مدعوّة لتكون المسؤولة من الآن وصاعداً عن إحداث الصدمات الإيجابية الكفيلة بتطهير النفوس المعتلّة من خلالها (جمع خَلَل). عليها استلام زمام المبادرة عبر تحرير المواطنين المغرر بهم «الخواتم» (جمع خاتَم) من عبودية أصابع يد أمراء الطوائف وحيتان المال. وبالتالي فإن الأجيال الصاعدة عليها أن تكون مسؤولة عن عملية تغذية النسل «مياه الحياة» بجميع أنواع الفيتامينات المضادة للذهنية الطائفية، لكي يخوّل الأرحام ولادة طبائع سويّة متينة المناعة الوطنية. فمطلوب من الأجيال الصاعدة التلمذة بسلاح العلمانية الديموقراطية. فلا مندوحة من سلوك هذا السبيل من أجل تعقيم مَن هو مصرٌ على الاستمرار في سلوك الطريق المذهبي الطائفي، وبذلك تكون الطريق قد عُبّدت أمام ولادة أجيال لبنانية عربية علمانية ديموقراطية، تكون قد غرفت مسبقاً في أحشاء أمهاتها إكسير الإصلاح والتغيير، فتبصر النور، ونور الأمل يشع من عينيها مبشراً بمستقبل زاهر لائق مشرّف. وساعتئذٍ تفتح أبواب قطارها التقدمي التحرري الذي يتسع للجميع، باستثناء المصرّين على البقاء غائصين في بحور الرجعية والطائفية واللامبالاة.