عبد الأمير الركابي *الحقائق الوطنية العراقية تواصل الحضور وفرض قانونها على الواقع العراقي. يحدث ذلك تباعاً عبر أكثر من مسألة محورية، كموضوع توزيع الثروة وعائداتها الوطنية، وضرورة مركزية التعامل معها، أو قضية الكيان ووحدته، أو مسألة الفدرالية ومآلاتها، والمحاصصة والتباسات نتائجها، أو في مجال الموقف من الاحتلال والسيادة... وكل من هذه المحاور، تمثلت حاضرة بقوة عبر مناسبة أو حدث بارز أدى إلى تصادم وأزمة، أظهرت في كل مرة ميل الخط البياني للمواقف العامة والشعبية، بعيداً عن منطق الاحتلال والغزو، وعن أشكال وترتيبات الحالة التي سبقت الغزو وبررته «نظرياً». تبلورت الحقائق الوطنية على قاعدة نقض ما كان يسمى بـ«الأيديولوجيا» وفبركة موجة آراء ثبت أنها كانت بالأحرى مضادة للوطنية، أكثر مما هي غريمة، أو عدوة للأيدولوجيا. والوقائع الصلبة واليوميات تراكم تباعاً أدلة لا تقبل الجدال، تعيد إنتاج تلك الحقائق الوطنية الأصلية، وتكاد تحسم الجدال حول ما هو أيديولوجي وما هو واقعي في كينونة العراق، وآليات وجوده وتكوّنه التاريخي.
هذا لا يعني أن الحقائق الوطنية والتأسيسية قد انتصرت على ما عداها من أفكار ومن ظواهر طارئة ومؤقتة. فالمسار الحالي من تكوّن العراق في لحظة ما بعد الدولة الحديثة، سوف يطول ويأخذ مداه. غير أن ملامح الطور المقبل من التاريخ لم تعد غائبة كلياً. والوجهة العامة للمآلات أو الأهداف الممكنة، ناهيك عن التطلعات والأحلام التي تراود العراقيين وتجتذب فعلهم، ربما تكون قد اقتربت من التجسيد.
القطار لم يوضع على السكة بعد، لكن السكة تكاد تصبح جاهزة لاستقبال رحلة السفر العراقية الجديدة على طريق التعددية والوحدة. وآخر ما دل على ذلك جاء من موضع حساس. فنوري المالكي لم يعدم في الآونة الأخيرة تقريظاً صدر عن أصوات تُعدّ معارضة له، وجدت في معركته مع القيادة العنصرية الكردية، ومع «المجلس الأعلى» وفي مصارحاته مع الشعب، خلال خطابه بمناسبة قرب التوقيع على الاتفاقية الأمنية، نوعاً من «تغيير» في الوجهة، اقتضى التنويه القريب من التأييد، مع تبيان نقاط اللقاء ونقاط الاختلاف.
لكن العدة كلها، وفي أغلب الميادين، ما زالت تشكو من النقص، وأحياناً من طغيان الماضي وأساليبه. فلغة المقرضين / المعارضين، وشبه المؤيدين، استعيرت من ترسانة لا تنتمي إلى الحاضر. والخطاب المعتاد في الحديث مع «المسؤولين» في عالمنا العربي، ورنينه الأحادي المداح، كان غير خفي، ويحيل المتابعين إلى نماذج وأجواء قديمة، مارسها دائماً من كانوا يتصدرون المشهد الإعلامي، باسم الحديث عن الموقف الفكري أو الثقافي.
أخذ هؤلاء الوجه المباشر والظاهر من مواقف المالكي وسلوكه وناقشوها. كأنهم يتصورون وضعاً عراقياً مستقراً، لا في حالة إعادة تكوّن وتغيرات متوقعة في الأفكار والأشخاص والتوجهات. وهنا تتمثل لنا أولوية المهمة الفكرية لا السياسية الآنية، باعتبارها ضرورة وقوة فعل حاسمة ومطابقة للحظة الانتقال التاريخي. فتشخيص الحالة التي ينطق من داخلها ويعمل استجابة لها المالكي، تستدعي قبل أي شيء، الإشارة إلى أولوية دوافع تعزيز موقع «الحكومة» والسلطة المركزية، عن طريق القوة العسكرية، وبالاستعانة بقوات الاحتلال، كما عن طريق «مجالس الإسناد» التي يؤسسها في المحافظات لتقوية حضوره السياسي ضد بقية القوى والأحزاب والميليشيات، مع أن المالكي عضو في حزب. وهذا قطعاً تصرف ينطوي على استغلال للسلطة لا يخلو من رائحة عودة إلى سلوكيات أحزاب حكمت العراق من قبل.
وفي هذا يظهر المالكي متجاذباً بين منحيين، فهو في العمق راغب في تكريس موقع ذاتي من خلال الحكم والاحتلال، كما أنه في الوقت عينه مأخوذ بقوة حقائق صار بمواجهتها، ويزداد اقتراباً منها وتجابهاً وإياها، كلما مرت عليه الأيام والشهور، ما دام هو في رأس السلطة. فالسلطة التي يريدها لا سكّة لها غير الوحدة الكيانية ونبذ الطائفية والميليشياوية، والسير في طريق الاستقلال واستعادة السيادة. وكل هذه موضوعات تومئ إلى نوعية «النظام» المطلوب من هنا وصاعداً، بينما المالكي لا يزال يصارع ضمن حدود الحكومة والسلطة، وهو شخصياً جزء منها وعضو أصيل ضمن نسيجها.
وأتعس الحكام هم الذين يحكمون بقوة الدفع الآني وبلادهم تغرق في الكارثة، وتكوينهم وسياق تجربتهم ووعيهم تقعد بهم عن معرفة الحقائق الوطنية الدفينة والمستجدة، فلا يستطيعون الارتفاع لمستواها، وإن حاولوا التفلت أو اضطروا للإيحاء به. ففي مثل هذه الحالة، يتجه أمثال هؤلاء إلى اقتراح تأليف مجالس الإسناد، مكررين صيغة بالية من صيغ افتعال الأشكال التنظيمية الداعمة لكل حكم أحادي عرفه تاريخ العراق، مع أن هذا النمط من الحكومات انتهى من سجل تاريخ البلاد. أو يستعملون الجيش في المعارك الداخلية، كتفاً إلى كتف مع مروحيات المحتلين ودباباتهم، وهذه مخارج من شأنها، حسب تركيبة الوضع الحالي وكما أُرسيت قبل خمس سنوات، أن تصبح مبعث توترات خطيرة وصراعات داخل الكتل وبين التحالفات القائمة.
ومن حالة الجزئية والطائفية المزرية، قد ينحدر الوضع برمته هذه المرة نحو مزيد من التشظي والفوضى. وما يعتقده المالكي قفزاً إلى الأمام قد يصبح كارثة، وإيغالاً مظلماً في مسلسل الذهاب إلى الجحيم.
لعل الأخطر والأبعد في السيرورة العراقية الراهنة، تعلم الحكام والمعارضين والمعنيين جميعاً حتمية ابتداع النظام، لا السلطات والحكومات التي ستظل تتلبسها أشباح ولّت. واليوم تتصارع على أرض الحقيقة الوطنية والحياة في هذه البلاد، ثلاثة خيارات: الأول ذلك المقام على أساس المحاصصة، وهو يكاد يُتجاوز ويلفظ أنفاسه. والثاني هو شبح الدولة الأحادية المنهارة، والمسماة «الدولة الحديثة»، وهذه ولّت ولن تعود. والثالث هو دولة التعددية المقترنة بالوحدة الشعبية والكيانية، وهذه صاعدة، لكن لم تصبح حقيقة ماثلة وقابلة للتطبيق. فالأخيرة لا تقوم بقرار ولا تفتعل، مع أنها تتقدم كل يوم وتتحول إلى ضرورة يعلن عنها كل نقص، وكل ممارسة متعثرة على مستوى السلطة وداخل المجتمع. إلا أن النظم الجديدة، التي تمثل سيادة منطق حقب تاريخية لا فترات طارئة، تتطلب اكتمال الرؤية الوطنية، وذلك عمل شامل وتاريخي وإبداعي، ليس أهم وأخطر وجوهه السياسة، بل الفكر. وتلك لحظة فريدة، وخيار غير مسبوق لم يعرفه العراق.
دعونا نبحث رغم ذلك، عما يملكه العراق، كذخر أو كحقيقة مستعادة، قد تعين على اختصار المهمة، وتسهل تحديد مدى الرؤية ونطاقها. فقد نعثر بعد قرابة تسعة عقود من الزمن على ذلك الطيف وقد بدأ يجول في أزقة بغداد الحزينة المهدمة وشوارعها. ذلك الطيف هو من دون أدنى التباس لجعفر أبو التمن (الذي كان يسير في العشرينيات على قدميه من باب المعظم إلى الباب الشرقي، دون أن ينزل يديه من كثرة المحيّين له على طول الطريق)، وهو زعيم «الحزب الوطني العراقي» الذي تأسس عام 1922، وأبو الحركة الوطنية العراقية الحديثة، إذ خرجت من تحت عباءته كل قسمات الحركة الوطنية العراقية المعاصرة وتياراتها، الماركسية والقومية والليبرالية. فمسيرة الانفصال والتجزؤ التي حلت على الواقع العراقي منذ الثلاثينيات، ومنعت حزب مزيج الوحدة والتعددية العراقي ذاك من الصمود طويلاً، أوجبتها في الخلفية مقتضيات نقص تاريخي في التشكل الوطني، ولم تتوافر أسباب اكتمالها إلا بعد قرابة قرن من الزمن، عندما أصبح التجزؤ مدخلاً يأخذ إلى مزيد من التجزؤ، والأفكار المتداولة عاجزة عن توليد رؤية أبعد، تصلح لتكوين نظام ترتكز عليه الدولة.
المالكي لا يعرف من هو جعفر أبو التمن. ومن شبه المستحيل أن يعي الصلة بين أبو التمن ومأزقه هو، بينما محاولاته الحالية تتوسم أساليب هامشية وبالية، في لحظة حاجة تاريخية وانتقالية كبرى. لكن المالكي ليس الوحيد في تعاسته. ومن بين التعساء الكثر، ربما كان هو أكثرهم سعادة ووهماً. كل عراقي حي يحتاج اليوم إلى اللقاء بذلك الشبح المستعاد بقوة التاريخ، لإلقاء التحيه عليه: «حياك الله جعفر أبو التمن»، سنعود إليك...
* كاتب عراقي