سلامة كيلة *باتت الأيديولوجيا مجال تحميل كل مساوئ الواقع. باتت هي الشر الذي لا بد من إزالته لكي يستقيم العالم. حيث لا تجد حديثاً عن مشكلة في القرن العشرين إلا وكانت الأيديولوجيا هي محركها. هل المسألة بهذه «الواقعية»؟ وأصلاً ما هي الأيديولوجيا هذه التي «تشيطن»؟ إذا كان مفتتح سنوات التسعينيات هو لحظة الإعلان عن نهاية التاريخ، فقد كانت الخمسينيات هي مفتتح الإعلان عن نهاية الأيديولوجيا. إذاً، لقد انتهت الأيديولوجيا منذ نصف قرن، فلماذا كل هذه الشيطنة لها؟ ربما كان الشعور آنئذ بأن ذاك الإعلان عن نهايتها الذي تبدى وهماً نتيجة استمرار فاعليتها، هو الذي فرض أن تعامل منذ مفتتح التسعينيات بطريقة الشيطنة. لهذا فما إن انهارت النظم الاشتراكية، حتى اشتدّ الهجوم على الأيديولوجيا. وبدا أن تصفية حساب معها تجري، وبان أن تصفية الحساب هذه يجب أن تكون قاسية لأن الأيديولوجيا كانت مؤرقة طيلة القرن العشرين، وأن الإعلان عن وفاتها لم يفد في شيء، ولم يعن شيئاً ما دامت قد استمرت.
ولقد تحددت الأيديولوجيا وفق هذا الهجوم في الاشتراكية، أو كل السياسات والممارسات المشابهة. بمعنى أن الأيديولوجيا هي الاشتراكية فقط. في الوقت الذي كانت أكوام المديح تكال لليبرالية، والديموقراطية التي هي أيديولوجيا أيضاً.
ما كان مطروحاً هو هذا بالذات، أي أن الأيديولوجيا هي الاشتراكية وأن التحرر منها يعني تبني الليبرالية كفلسفة وكسياسات، وأولاً كسياسات.
أليست الفلسفة والسياسات أيديولوجيا؟ إذاً، كان الهدف هو خوض معركة بطريقة «عبقرية» تحقق الهزيمة والانتصار بضربة واحدة. هذه الضربة هي شيطنة الأيديولوجيا. فهي وحدها التي تُكسب معركة انتصار الليبرالية، لأنها تلغي عدوها وتضع ذاتها في موقع «الخير».
أليس كل ذلك أيديولوجيا؟
ما فُهم من كل المهاجمين أن الأيديولوجيا شرّ، لكن ما معنى الأيديولوجيا؟ هذا ما لم يكن مطروحاً، ليس للنقاش بل للتفكير بالأساس. حيث لم يستوعب «العقل» سوى أن الأيديولوجيا شر. هذا يكفي لـ«عقل» مسطح، ويقف عند محطة الإمام الغزالي الذي، بإلغائه الفلسفة، ألغى التجريد، وبالتالي ألغى كل إمكان للتفكير. لهذا قال إنه يجب أن نلتمس الحقائق من الألفاظ لا من أي شيء آخر. وبهذا فالأيديولوجيا شر. ماذا تعني؟ ليس مهماً، حيث إن اللفظ يشير إلى أنها شر. هذا يكفي. لا يعرف كل الذين يشنون هجوماً على الأيديولوجيا أنهم غارقون في الأيديولوجية حتى... آذانهم. فالأيديولوجيا هي الوعي المصوغ تعبيراً عن المصالح، سواء كانت هذه المصالح حقيقية أو متوهمة. وهنا يكون الوعي مطابقاً أو زائفاً. لكن في كل الأحوال هذه أيديولوجيا. ولهذا فحين تُرفض الاشتراكية فهذه أيديولوجيا، لأن رافضيها لهم مصالح في نظام آخر، هو ـــ كما يعبّرون ـــ الليبرالية أو الرأسمالية. وهذا أيضاً وعي أيديولوجي. إذاً، الوعي والفلسفة والفكر كلها توضع في خانة الأيديولوجيا ما دامت صيغت كتعبير عن نوازع أفراد أو طبقات. وبالتالي لا تعود الأيديولوجيا هي صفة تيار فكري فقط، بل صفة كل التيارات الفكرية، كل فكر. لتصبح شيطنة الأيديولوجيا هي شيطنة للذات.
كان يكفي أن يُقال إن الاشتراكية فشلت، وبالتالي فنحن فرحون لأننا مع الرأسمالية. فهذه صراعات مصالح، وتعبيرات عن ميول طبقية. لكن الحرب على الأيديولوجيا تخفي أهدافاً أعمق، وهو الأمر الذي استدعى كل هذا الهجوم. حيث تصبح الليبرالية وكأنها هي العلم، في معادلة الأيديولوجيا / العلم. وهي التطور التكنولوجي، وهي «الانتظام الاجتماعي»، وهي العقلانية، وخصوصاً النظم الديموقراطية. ليصبح قبول الليبرالية هو قبول بالعلم، وليس موقفاً طبقياً ينبع من مصلحة أنانية، وتكون النظام الاقتصادي الأمثل لأنها تقوم على العلم. بينما تضل الأيديولوجيا الطريق، وتؤسس لنظم استبدادية تدمر شعوبها، ولاقتصاد راكد لا يخلق رأسماليين.
ومسألة الأيديولوجيا / العلم كانت من «اختراع» ماركسي (ربما مع ألتوسير)، رغم أن هدفها كان القول إن ماركس قد غادر الأيديولوجيا إلى العلم في كتابه «رأس المال». والعلم هنا هو علم الاقتصاد، لا أي علم آخر. وبهذا باتت الليبرالية هي هذا العلم بصفتها اقتصاداً. وإذا كان ماركس قد أعطى لمصطلح أيديولوجيا (في أحد وجوهه) معنى سلبياً هو الوعي الزائف، فإن استخدامه اليوم في هذا المعنى بالتحديد يُقصد منه القول إن الاشتراكية والنظم الدولتية طرحت وعياً زائفاً. وبالتالي فالاشتراكية كما القومية هي وعي زائف. أما الوعي الحقيقي فهو: الليبرالية.
في ثنايا كل ذلك، سنلمس أن هدفاً «مخفياً» يتلطى. فإذا كان الاتهام بالأيديولوجيا لا يقدم شيئاً في تفسير الظواهر، لأنه حكم مبرم، حكم يقول بأن النظم الاشتراكية والقومية قامت على الأيديولوجيا، إذاً فهي فاشلة. فلا يسعنا سوى تلمس الظواهر تلك لكي نلمس هذا الهدف. حيث إن هذا الحكم / الاتهام يطال كما أشرنا النظم الاشتراكية، فهل الأيديولوجيا هي التي أفشلتها؟ هنا الأيديولوجيا هي الماركسية. وبالتالي فإن الماركسية هي الوعي الزائف هذا، بينما الليبرالية هي الوعي الحقيقي، لهذا فهي ليست أيديولوجيا، إنها علم. علم اقتصاد قائم على الحرية المطلقة للسوق، وللتنافس الحر، ولحرية الرأسمال في أن يكسب الربح الأعلى.
هذا هو الوعي الحقيقي، العلم الذي يجب أن نتمسك به! لكن كل ذلك هو تعبير عن مصالح الرأسمال، هو وعي الرأسمال. إذاً هو أيديولوجيا. هي حقيقية للرأسمالي، لكنها زائفة للعامل، على عكس الاشتراكية التي هي وعي حقيقي للعامل وزائف للرأسمالي.
لهذا يمكن أن نقول إن هذا الهجوم يهدف إلى انتصار الوعي المعبر عن الرأسمال، لا أي شيء آخر. لكنه يخوض حرباً ملتوية ضد الاشتراكية تحت عنوان الأيديولوجيا، الأيديولوجيا المضادة للعلم.
إن ما يراد دفنه هنا هو أن الاشتراكية استطاعت أن تنقل المجتمعات التي سادت فيها، من تخلف القرون الوسطى، إلى «الحضارة». ولقد توضح أن التطور الحقيقي حدث في هذه المجتمعات بينما لم تستطع أي من المجتمعات الأخرى التي ظلت رأسمالية سوى أن تبقى تعاني التخلف والتهميش (حتى النمور الآسيوية). بمعنى أن ربط الأيديولوجيا بهذه التجربة، ومن ثم شيطنتها، يهدف إلى إخفاء الوقائع التي هي وحدها فرضت أن تسعى تلك الشعوب إلى البحث عن الديموقراطية، حيث باتت مجتمعات مدنية حديثة، ومتطورة صناعياً. الأمر الذي جعل الديموقراطية مطلباً عاماً، لأنها التكوين المطابق للحداثة.
* كاتب سوري