علاء اللامي *صدر أخيراً بيان وقعه أحد عشر مثقفاً من دول عربية عدة، يجمعهم انتسابهم إلى الطائفة المسلمة الشيعية. وصف الموقعون على البيان أنفسهم بـ«العرب الشيعة»، وأيضاً بـ«الجيل الشيعي الجديد». ولعل من أبرز الموقعين الكاتب الإسلامي العراقي أحمد الكاتب، وهو صاحب مؤلفات عدة، تجديدية في مضمارها، من أهمها «تطور الفكر السياسي الشيعي» الذي يمكن اعتباره الأرضية المفاهيمية لما ورد في البيان المذكور من مبادئ. هنا قراءة في مضامين البيان:
لا يمكن اعتبار العديد من المبادئ والأساسيات الفقهية والطقوسية التي تعرض لها أصحاب البيان بالنقد أو أعلنوا تخليهم عنها جديدة تماماً. فرفض نظرية ولاية الفقيه الذي ينادي به الموقعون ولد مع النظرية ذاتها، وتحولها إلى واقع ملموس بقيام نظام الحكم الديني في إيران، حيث نصت المادة الثانية عشرة من الدستور الإيراني بعد الثورة على أن «الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري، وهذه المادة غير قابلة للتغير إلى الأبد». كما أن رفض سبِّ الخلفاء الراشدين السابقين للخليفة علي بن أبي طالب وإدانتهم، والدعوة إلى التخلي عن طقوس وتقاليد اللطم والتطبير وأساليب إيذاء الأبدان الأخرى، ليست جديدة، بل طُرِحَ بعضها مبكراً ومكرّراً منذ نصف قرن تقريباً، وزال بعضها من الوجود، والتعاطي كما هي الحال بالنسبة للتطبير عند شيعة لبنان. غير أن العودة إلى إعلانها وتأكيدها لا تخلو من فائدة، وخصوصاً في مضمار التأسيس لهوية أصحاب البيان الفكرية والفقهية الذين يعلنون أن هدفهم هو «تحرير الإسلام الشيعي من الهيمنة والاستبداد، والقضاء على كل معوقات انسجام الشيعة مع أوطانهم وإخوتهم في الدين والوطن والأمة والإنسانية».
غير أن البيان، مع ما تقدم، لا يخلو من الجديد، بل الجديد النوعي المهم، بغض النظر عن المآل الذي آلت إليه محاولات تجديدية مماثلة في الماضي البعيد والقريب، وخصوصاً أن الموقعين لا يخفون طموحاتهم المستقبلية لنشر دعوتهم وإقناع الآخرين بتأييدها عبر التوقيع على البيان. وبالعودة إلى النص، نجد أن البيان تضمن 18 بنداً تدعو بهذه الدرجة من الوضوح أو تلك إلى مراجعات فكرية وعقيدية وسياسية يتوقع أن تحدث ردود أفعال مهمة في الأوساط الشيعية، وخصوصاً منها ذات المساس بالجانب الفقهي والعقيدي، لأنها تتعلق بأركان أساسية في المعتقدات الشيعية، وخصوصاً مسألة «التقليد»، و«إعطاء الخمس لرجال الدين»، و«نظرية ولاية الفقيه».
في أول بند من بنود البيان، أعلن الموقعون: «نرفض أن ندفع الخمس أو الزكاة لأي رجل دين... وندعو أبناء الشيعة في كل أنحاء المعمورة لدفع الحقوق الشرعية لمن يكفل وصولها لفقرائهم ومعوزيهم»، و«إنفاقها على تشييد المشاريع التي تساهم في تنمية أوطانهم وتعميرها».
يمكن اعتبار هذا البند أو المطلب لُبَّ البيان، وأخطر ما ورد فيه على صعيد التعامل مع مؤسسة المرجعية الشيعية النجفية العراقية، أو القُمية الإيرانية، إضافة إلى المرجعيات الفردية. إنها، حسب علمنا، أول محاولة معلنة لتجريد هذه المؤسسات من الأساس المادي، وتحديداً المالي، الذي يُعدّ بالنسبة لها حبل الوريد وعصب الحياة. ومن المتوقع أن يرى البعض رفع هذا المطلب أو الشعار مبكراً أو شبه مستحيل بمعنى ما. غير أن قراءة أكثر عمقاً له ستكشف لنا أن البيان لا يطرح شعارات «عميقة الثورية» تريد تجريد المؤسسة الدينية من ثرواتها المالية ومصادر تلك الثروات كمقدمة لتجريدها من دورها السياسي والمجتمعي التأطيري، كما حدث في بعض الثورات البورجوازية ضد الكنيسة المحمية من الإقطاع الأوروبي والحامية له. فأصحاب البيان لا يطالبون جمهور الطائفة بالكف عن دفع الضرائب الدينية من قبيل الحقوق الشرعية والزكاة وغير ذلك، بل يحاولون حرمان المؤسسة الدينية المرجعية منها، وجعل أمر تسديدها وأوجه صرفها شأناً شخصياً يقوم به المؤمن بحسب ما يراه وعبر مَن يختاره.
وحتى هنا يمكن الرد على هذا المطلب / الشعار بأن ما يفعله المؤمنون «الشيعة» الآن هو أنهم يسددون تلك الضرائب والمستحقات الدينية إلى من يختارونه من المراجع الكبار، كما أنهم ليسوا مجبرين على تسديده أصلاً بموجب قانون نافذ ولازم. الفرق إذاً بين ما يريده البيان والواقع أمر نسبي، ويتعلق بالحيثيات التفصيلية، بينما كان الأجدى أن يرفع البيان شعاراً أكثر جذرية يرفض بموجبه أداء أية ضرائب دينية أو جبايتها من المؤمنين الشيعة أو غيرهم، والاكتفاء بالضرائب المدنية التي تجبيها الدولة. هنا أيضاً كان يمكن الاقتراب من أطروحات «لاهوت التحرير» بمنح أفق طبقي لهذا المطلب، من خلال جعل تلك الضرائب والأداءات المالية مصدراً لتمويل الجمعيات التضامنية الخاصة بالفقراء وذوي الحاجات الخاصة، دون تحديد دائرة المستفيدين بالانتماء الطائفي.
أما في ما يتعلق بالبنود التي تتعرض لبعض الأساسات الفقهية والطقوسية أو تدعو لمراجعتها من قبيل العصمة والولاية والنيابة عن الإمام المعصوم، وما شابه ذلك، فيمكن تركها للفقهاء وعلماء الدين المتخصصين. أما ما تعلق منها بالحياة العامة والعلاقات الاجتماعية بين أفراد الطائفة الشيعية أو بينهم وبين أبناء الطوائف الأخرى، فينبغي التصدي له ومعالجته بأفق ديموقراطي جذري.
من هذا القبيل، يورد البيان جملة مبادئ ومعتقدات من بينها: التعامل الازدرائي مع النساء وكراهة السلام عليهن، وتكفير المخالف طائفياً ودينياً، وقذف الخلفاء السابقين للخليفة علي بن أبي طالب، والرق والغزو، والزواج من الرضيعة، وديَّة المرأة، ونجاسة غير المسلم، والتمييز بين السيد والعامي... فهذه الأمور التي يحاول البيان التعرض لها من منطلقات مقاربة لمفهوم المواطنة الحديث، هي أمور محسومة على الصعيد الحياتي منذ زمن طويل، وقد اختفى بعضها فعلاً من دائرة التعاطي والوجود. ففي حالة العراق مثلاً، القوانين المدنية هي السائدة منذ بداية نشوء الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي. كما يمكن اعتبار المبدأ الذي ينادي به أصحاب البيان ونصه «نؤمن بأن الإسلام دين الفرد والمجتمع لا دين النظام، وأنه شأن خاص لا شأن عام بالضرورة، وندعو دولنا العربية إلى معاملة مواطنيها دون تمييز على أساس الدين أو المذهب أو الجنس أو اللون أو العرق أو القبيلة» يمكن اعتباره إذاً، صيغة جديدة ومكررة أيضاً، لمضمون علماني مخفف أو محلي، تخالطه بدرجة معينة من الكثافة مفردات حداثوية منتشرة هذه الأيام في الأوساط الليبرالية المدعومة حكومياً، من قبيل شعارات التسامح والمساواة والإخاء ونبذ ثقافة الكراهية... ممّا يدخل في عداد البروباغندا السياسية لا في صميم الظاهرة التحديثية الحقيقية.
ملاحظة أخرى يمكن تسجيلها على هذا البيان، فرغم أنه لم يكن سياسياً بالدرجة الأولى، ولكنه سيثير تساؤلات جمة وحقيقية عن سبب تجاهله واقع احتلال بلد مهم يُعدّ مهد التشيع في العالم، أي العراق، وعن صمته المطبق عن الدور السياسي المثير للجدل للمرجعيات الدينية النجفية خصوصاً، رغم أنه تصدى لعدد من مظاهر الحياة السياسية المعاصرة. من العسير حقاً تفسير هذا الصمت والتجاهل تفسيراً يصب في مصلحة أصحاب البيان. غير أنه لن يكون السبب الوحيد الذي سيدفع البيان وأصحابه إلى الجدار ومن ثم النسيان.
* كاتب عراقي