ياسين تملالي
حفلة تسليم «جائزة أصحاب المكتبات» في معرض الجزائر الدولي للكتاب. يُعلَن اسم الفائز في الميكروفون: عمارة لخّوص، عن رواية «صدام الحضارات في مصعد يبياتزا فيتوريو» الصادرة بالفرنسية مترجمةً من الإيطالية (دار البرزخ). يصعد الكاتب إلى المنصة ويبدأ الحديث، بالأمازيغية، لغته الأم، فتدوي القاعة بزغاريد أمّه. ثم ينتقل إلى العربية، ويُنهي كلامه بالفرنسيّة. هذا هو لخّوص، تتنازعه اللغات فلا يتوسّط بينها ولا يغلِّب إحداها على الأخرى. لا يعنيه كثيراً أن يُسمّى بالروائي «الإيطالي» أو «الجزائري»، ولا «أن تدرج المكتبات «صدام الحضارات» في خانة الأدب المغاربي أو الأفريقي أو العربي».
موعدنا كان في مقهى في ساحة البريد المركزي، في الجزائر. ليس سهلاً انتزاع لخّوص من مشاغله، بعدما نال «جائزة أصحاب المكتبات». يسلّم ويجلس. ندردش قليلاً. يتحفّز للكلام بثقة مَن ألِف أسئلة الصحافيين وروتينها، ولم يعد يدهشه نجاحه الأدبي: «ولدت في 21 نيسان/ إبريل 1970. 21 إبريل هو عيد ميلاد روما». وروما هي المدينة التي احتضنته بعدما لفظه بلده في منتصف التسعينيات. يَذكُر تصادف التاريخين بابتسامة عابرة لا تمحو عن وجهه جديّته، ثم ينتقل إلى شيء آخر، نشأته في عائلة أمازيغية قبائلية من حسين داي، أحد أحياء العاصمة الشعبية، وولوجه درب الرواية في مناخ التسعينيات المشحون بالآلام.
«التلفزيون في دارنا كانت روايات تقرأها لينا أختي، وإخوتي يسمعون لها وهم يبكون». بدأ لخوص مداعبة القلم في الإعدادي، وكتب أولى قصصه بالعربيّة في المرحلة الثانويّة. لم يتأثر بغياب هذه اللغة عن جوّ البيت، فأبوه لا يحسنها وأمه قبائلية أصيلة لم تعرّبها العاصمة مقدار ذرة. «لم أر يوماً في الكتابة بالعربية تناقضاً مع هوياتي الأخرى». هكذا، يحسم الأمر لمحدّثه، من دون إفاضة أو تطويل. وقد لا تعنيه أصلاً الهويات، بعدما صفّى حسابه معها في «صدام الحضارات في مصعد ببياتزا فيتوريو».
«كل منّا جنوب غيره» هكذا لخّص لإحدى الصحف هذه الرواية التي تحلّل، من خلال تعليقات سكان عمارة رومانية، جريمة حدثت في مصعدهم. تناقضات إيطاليا المنقسمة بين الجنوب الفقير الموصوم بـ«المافياوي»، والشمال الصلف الغني، بين الانفتاح العفوي على الغير وكره الأجانب المقيت. يتكلّم لخوص عن نفسه وعمله ومهجره الإيطالي بعربيّة لا تخلو من لكنة أمازيغية، بصوت رزين، كمن فكّر في كل هذه المواضيع ملياً قبل كل حديث. ويبدو أنّه حفظ طقوس الحوارات الصحافية عن ظهر قلب، فلا يفاجأ بالأسئلة ويقتضب بالإجابات. يتكلّم عن الجزائر، هو المقيم في إيطاليا منذ قرابة 15 سنة، فلا يهدج صوتَه الحنين. «الجزائر جرح برئت منه».
يتذكّر رحيله إلى روما عام 1995، إثر تخرجه من معهد الفلسفة في جامعة الجزائر. كان صحافياً في الإذاعة، وكانت الجماعات الإسلامية تستهدف الصحافيين بوصفهم «عملاء النظام». كان محبطاً من الوضع العام، ومن انغلاق الأفق الأدبي أمام ناظريه. لم يرض أحد بنشر روايته الأولى «البق والقرصان»: «قيل لي إنّها قبيحة وإنّ مونولوغاتها ملأى بالكلمات السوقية». ويضيف: «بطلها كان يعمل هنا»، مشيراً إلى مبنى البريد، كأنّه يدلل على عراقة انغراسه الجزائري. تلك الرواية لم تُنشَر، في نهاية الأمر، إلا... عام 1999، «في إيطاليا لا في الجزائر».
ويستأنف الكلام عن هذيان التسعينيات: «كان الكثير من الجزائريين يؤمنون بشعار الجبهة الإسلامية الغريب: لا ميثاق ولا دستور، قال الله، قال الرسول. وبعدما استحال نشر «البق والقرصان»، أحسستُ بشرخ عظيم بيني وبين المجتمع. قلت لأحد أصدقائي: هذا المجتمع وفّر لنا كل شروط الانتحار. كنّا كل يوم على حافة الموت وكان جلّ تفكيرنا منصباً على الطريقة التي سنُقتل بها. كنّا نحلم بالموت الأفضل».
هكذا، سافر إلى روما مقسماً ألا يعود: «تخيّلتُ وأنا أركب سيارة أخي في اتجاه المطار، أنّي داخل في تابوت، وتوهّمت أنّي أُدفن وأنا أدخل الطائرة». لكنّه في روما بُعث من كوابيس الوطن: «كنت أحضّر نفسي للموت فاكتشفت أنّ عليّ تحضيرها للحياة». قرّر العودة إلى الكتابة، واستأنف دروس الإيطالية. «العودة إلى مقاعد الدراسة كانت بمثابة طفولة أخرى. المعلمة تعاملك كطفل، فيشعرك ذلك بميلاد جديد».
«لدى مجيئي إلى الجزائر أول مرة في 2004، شعرت كأنّي من أهل الكهف، وأنّ العالم تغيّر كثيراً خلال سباتي العميق». جاء لخوص إلى مدينته برواية عنوانها «كيف ترضع الذئبة من غير أن تعضك». نشرتها «دار الاختلاف» وكانت شهادةَ ميلاده الأدبي الجزائري. وفور عودته إلى روما، قرّر إعادة كتابتها بالإيطالية. «وطن جديد ولغة جديدة» وقد صدرت الرواية فعلاً بهذه اللغة في 2006، بعنوان «صدام الحضارات في مصعد في بياتزا فيتوريو». نالت إعجاب النقاد الإيطاليين و«جائزة فلايانو الدولية»، فترجمت إلى العديد من اللغات. تلقفتها «أكت سود» في فرنسا، و«البرزخ» في الجزائر، فتوجت بـ«جائزة أصحاب المكتبات» الجزائريين: «عادت إلى موطنها بعدما نمت بلغات أخرى» يعلّق لخوص من دون أن يرى في الأمر معجزةً، فـ«هذا قدر الأدب وهذا قدر الأدباء».
«المهجر أنقذني من الموت. لا الموت الجسدي فقط بل الموت الإبداعي أيضاً». إيطاليا فتحت للخوص طريق الشهرة الأدبية. «لي الآن وطن ثان» يقول من دون مواربة، وعندما يستذكر أنّ الوطن البديل يرزح تحت حكم اليمين، يضيف: «وطن لست مجبراً على العيش فيه كالجزائريّين، لا حيلة لهم، مجبرون على العيش هنا».
في روما، لم ينس لخوص الجزائر لكنّه تجنب الكتابة عنها. «كنت أتابع أخبار الدم والمجازر وأتصل بأهلي لأستطلع أحوالهم. لكن ما إن تنتهي المكالمة حتى أعود إلى عالمي الخاص. لم تكن تخرجني منه سوى كوابيس الماضي». أما وهو الآن في ساحة البريد، فتبعث أشباح التسعينيات وتلقي بظلالها عليه. تبرق عيناه وهو يذكر «هذا الوطن الذي يصدر البترول وأبناءه». «الجزائر كالهدهد. الهدهد هو الطائر الوحيد الذي يوسّخ في عشّه». يتساءل كملايين الجزائريين «كيف ثورة من أعظم ثورات التاريخ، أنتجت لنا نظام الشرعية الثورية؟ وكيف حوّلتنا الشرعية الثورية إلى غنيمة حرب؟».
لا يستسلم لخوص للذة الشكوى، بل يطرد أشباح الماضي. «وطني الحقيقي هو الكتابة». وكي لا يساء فهمه، يوضح: «الكتابة ليست إلهاماً أو بوحاً بما في ضميري. ما في داخلي ملك لي أنا، ولا أسمح لنفسي بإزعاج قارئي به». قد يكون في «أماديو» بطل «صدام الحضارات» شيء منه، لكنّه يرفض الحديث عن ظلّه الشخصي في كتاباته، فالأدب ليس الواقع أو هو الواقع مغروساً في عالم الخيال.
ينفضّ الحديث على وقع هذه الكلمات، نتواعد على اللقاء ثانية. وعندما ينطلق لخوص في نهج محمد الخامس، متجهاً نحو مبنى الإذاعة، أنظر إليه فأرى عاصمياً أصيلاً، يترقّب التاكسي بمثل جلد العاصميين.


5 تواريخ

1970
الولادة في حي حسين داي الشعبي، الجزائر العاصمة

1995
الهجرة إلى إيطاليا بعد حملة الاغتيالات التي طاولت المثقفين والإعلاميين الجزائريين، من دون أن يتمكّن من نشر «البق والقرصان» المكتوبة عام 1993

2004
عودة إلى ربوع الوطن بعد غياب، وصدور «كيف ترضع الذئبة من غير أن تعضك» بالعربية عن «دار الاختلاف».

2006
صدور الرواية نفسها في روما، بعد إعادة كتابتها بالإيطالية تحت عنوان «صدام الحضارات في مصعد يبياتزا فيتوريو» وحصولها على «جائزة فلايانو»

2008
نشر الرواية بالفرنسية وفوزها بـ«جائزة أصحاب المكتبات» في الجزائر