طرابلس ـ خالد سليمانلأول مرة، يزور المفقودون مدينة الفيحاء. تستعاد صورهم أمام أهالٍ لم ينسوا بعد تقاسيم وجوههم، والرائحة التي خلّفها آخر مرور لهم في بيوتهم الدافئة.
«... لم يعودوا»، هو عنوان المعرض الذي تنظّمه جمعية أمم للتوثيق والأبحاث في مركز الرابطة الثقافية في طرابلس ضمن مشروع «ما العمل؟ لبنان وذاكرته حمّالة الحروب»، الذي انطلق يوم العاشر من شهر نيسان الماضي في قصر الأونيسكو. ينطلق المعرض من فكرة تأخذ بطرفي نقيض. تجمع البساطة والعمق، إذ تتناول موضوعاً إنسانياً موجعاً عبر أدوات مشهدية بسيطة كصورة فوتوغرافية تستعيد، عبر ما تحمله من إيحاءات بتجميد الزمن عند لحظة معينة من الوجود، واقعاً منفلتاً لأشخاص لم يعودوا موجودين ولم يبق منهم سوى صورهم.
«لا حقيقة لما لا شاهد بصرياً عليه»، يقول المصوّر أرتور كلايمان. لذلك عمدت جمعية أمم، إلى جانب بحثها النظري في قضية الاختفاء القسري، إلى مقاربة بصرية مفادها أن من خرجوا يوماً ولم يعودوا (مفقودي الحرب اللبنانية) هم بيننا، كما ورد في الدليل الذي وزّع على الحضور.
الحضور الذي لم يكن كثيفاً، إذ اقتصر على بعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان، وذوي بعض المفقودين في طرابلس الذين وجدوا في هذا المعرض متنفساً لهم للحديث عن أحبّتهم، بانتظار أن يسمعوا ذات يوم خبراً سعيداً بأنهم عادوا أو على الأقل، خبراً يشي بمصيرهم، بدل أن يظلوا «أسرى الانتظار»، كما وصفت الحاجة حليمة علي جمال، والدة المفقود رشيد اللداوي، حالهم. فابنها البالغ 15 عاماً من العمر قد فُقد في مخيم نهر البارد في 10 نيسان 1976 ولم يُعرف عنه شيء حتى اليوم.
ترفض جمال تحميل أحد مسؤولية اختفاء ابنها البكر، لكنها ترى أن «هناك تقصيراً من الدولة اللبنانية في الكشف عن مصير المفقودين في لبنان»، مطالبة بأن تبذل الجهات الرسمية مجهوداً في إعلامها على الأقل إن كان ابنها لا يزال على قيد الحياة، وسيعود يوماً ما.
أما والدة المفقود مصطفى زكزوك، الذي اختطف عام 1988، الحاجة هناء أحمد يحيى، فهي تحمّل السلطات السورية التي كانت في طرابلس آنذاك، المسؤولية عن اختفاء ابنها، لأن أحد الأشخاص المفرج عنهم في سوريا كان قد أخبرها أن ولدها موجود هناك. إلا أن الحاجة هناء قد فقدت الأمل في بقائه حياً طوال هذه الفترة. اليوم، هي تزور المعرض لعلها تعرف شيئاً عن مصيره.
أكدت منسّقة المعرض، غالية ضاهر لـ«الأخبار»، أن هذا المعرض سيتنقل في مختلف الأراضي اللبنانية، وهو يأتي ضمن المشروع الذي أطلقته جمعية أمم في نيسان الماضي تزامناً مع ذكرى الحرب اللبنانية، مشيرة إلى أن الصور قد «جمعت من ذوي المخطوفين ومن جمعيّتي لجنة أهالي المفقودين في لبنان ولجنة دعم المعتقلين والمنفيّين اللبنانيين في سوريا».
وعن سبب تسمية المعرض، شرحت ضاهر أنه يوحي بحالة المفقودين الذين خرجوا من بيوتهم ولم يعودوا إلى اليوم، إلا أن ذلك لا يعني أنهم لن يعودوا أبداً، مضيفة: «نحن نحاول اليوم أن نقدم الدعم المعنوي لذوي المفقودين عبر تسليط الضوء على هذه القضية الإنسانية وإبقائها حية في أذهان الناس»، ومؤكدة رفضها «أن يستغل المعرض من جهات سياسية لبنانية»، داعية المسؤولين إلى «إيلاء هذه القضية كل اهتمام، بعيداً عن التسييس وعدم تحميل السلطات السورية مسؤولية كل عمليات الاختطاف التي وقعت في لبنان، فهناك أحزاب وحركات سياسية لبنانية مسؤولة عن اختفاء عدد كبير من اللبنانيين، ربما كشفت المقابر الجماعية يوماً ما مصيرهم».


قضية المفقودين مسؤولية الجميع

529 صورة لرجال ونساء وأطفال من مختلف الطوائف والمشارب السياسية والجنسيات، فُقدوا خلال الحروب المتتالية. فهمجية الحرب العمياء لم تفرّق بين لون وآخر. كان مهماً لطرابلس أن تستعيد صور من ضاعوا مجاناً في رحى الحرب الطاحنة. هذا ما عبّر عنه رئيس الرابطة الثقافية في المدينة، أمين عويضة، خلال كلمة شدّد فيها على أن «هذا المعرض هو تكريم للمفقودين، وتعهّد نطلقه أمام أهاليهم بأننا سنحوّل غيابهم إلى عودة في وطن يحمل علماً يحتضن مع أرزته الهلال والصليب معاً».
أما رئيس جمعية أمم، لقمان سليم، فقد أكد في كلمته أن «متابعة قضية المفقودين هي تكليف مواطني نتساوى في مسؤوليته، لأن التسويف في المطالبة بالكشف عن مصيرهم هو تواطؤ موضوعي في جريمة يصفها القانون بالمتمادية».