strong>سماح إدريس *استغلّ إعلامُ 14 آذار الاعتداءَ المشينَ الذي تعرّض له الصحافي عمر حرقوص في شارع الحمرا ليشنّ حملة عنيفة، ولا سيما في جريدة «المستقبل»، ضدّ 8 آذار وضدّ الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسّسه وعقائده وممارساته قاطبةً، وضدّ جريدة «الأخبار» وكتّابها. واللافت في حملة مثقفي 14 آذار (وديكورها اليساري) أمران بارزان يقوّضان صدقيتَهم الليبرالية المزعومة كاملة.
الأمر الأول، والأوضح، أنّ مثقفي 14 آذار يشجبون خصومهم سياسياً، لا ثقافياً. إنهم، بعبارة أخرى، لا يدينون الفعلَ بل الفاعل: لا يدينون الاعتداءَ في ذاته، بل يدينون المعتدين بسبب من انتمائهم إلى طرف سياسي مقابل. ذلك أننا لا نقرأ لأولئك المثقفين مقالات تدين اعتداءات أفظع حين يرتكبها طرف سياسيّ يؤيّدونه أو يعملون في وسائل إعلامه. فالسيد حازم صاغيّة يدين «مثقفي العبوة والهراوة وكاتم الصوت» (جريدة المستقبل، 7/12/2008)، قاصداً بهم أولئك الذين برّروا ضربَ حرقوص (مَن هم هؤلاء المثقفون المبرِّرون يا ترى؟ وكيف برَّروا؟ الله يعلم)، ولكنه يصْمت صمتَ القبور عن قطع الرؤوس والأيدي والرجْم والجَلد ومنع النساء من قيادة السيارات في البلد الديموقراطي الذي يعمل في وسائل إعلامه الديموقراطية. وهو يشجب «وقفاتِ العزّ» التي وقفها المعتدون على حرقوص، وذلك في تهكّم واضح على أنصار الحزب القومي ومؤسّسه، لكننا لا نقرأ له (مثلاً) شجباً لرقصات «العزّ» التي أدّاها خادمُ الحرمين الشريفين مع جورج دبليو بوش. وهو يقارن، في إدانته المعتدين على الزميل حرقوص، بين الحزب القومي والنازية، ولكنه لا يرسم مقارنة أخرى، قد تكون أكثرَ صحّةًً من الناحية التاريخية، بين بعض أطراف 14 آذار، كالكتائب، والفاشية مثلاً.
وهذا الأمر، أيْ إدانة منتهكي حرية التعبير إدانة نابعةً من تحيّز سياسيّ لا من دافع ثقافيّ ليبراليّ حقيقيّ، نجده أيضاً لدى الزميل والرفيق السابق زياد ماجد. فقد هاجم «الهجاءََ السوقي» والأدوات «الرقيعة» التي تناله وتنال زملاءه (جريدة المستقبل، العدد المذكور أعلاه)، ولكنه ركّز على كتابات موقع «فيلكا» وجريدة «الأخبار» (رغم اختلاف أسلوب المنبرين اختلافاً واضحاً)، ولم يعثر عليها في مقالتَي الشاعر بول شاوول الشهيرتين ضدّ ميشال عون على سبيل المثال، وكأنّ وصْفَ شاوول للجنرال بالكلب أوالـ«عوْ» لا يلامس تخوم السوقية التي يتقزّز منها زياد.
ثم إننا لم نسمعْ زياداً، ولا زملاءه في معسكر مثقفي 14 آذار، يشجبون ريمون جبارة حين نعت د. أسعد أبو خليل في «ملحق النهار» (حزيران 2008) بـ«الجعاري»، ولم يدينوا في حدّ علمنا زميلهم المستقبلي فارس خشان حين وصف وئام وهّاب بـ«الخنزير البرّي» (برنامج «الاستحقاق» قناة المستقبل، 14 ــ 5 ــ 2008).
ولو كان الرفيق زياد ماجد حريصاً فعلاً على التمييز بين حرية التعبير من جهة، و»البذاءة» و«قلّة الأدب» و«الإسفاف» و«القدح» و«الذمّ» (كما يسمّيها) من جهة أخرى، لأيّد، وبحماسة، الدعوى القضائية التي رفعها عون ضدّ شاوول.
غريبٌ أمرُك يا صاحبي: تتحدّث عن «النقد المباح» ولا تُدْرجُ ضمن منتهكيه إلا خصومَكَ السياسيين، وإنْ مررتَ في مقالك المذكور مرورَ الكرام على ما أسميتَه «ردودَ الفعل» التي «لامستْ تخومَ التعصّب الأعمى» (لاحظوا أنّ أقصى ما يمْكن جماعةَ 14 آذار أن ترتكبه، بحسب زياد، هو ملامسةُ تخوم التعصّب ــ شو ناعمين وحضاريين هالجماعة... ورافّينيه كمان!).
وبالمناسبة، فإنّ أشهر مروِّج عربيّ في بداية القرن الواحد والعشرين للتعبير العبقري، وأقصد «النقد المباح»، قد يكون محامي فخري كريم (ما غيره!)، مستشار رئيس العراق جلال الطالباني، وذلك في معرض دعواه القانونية ضدّي بسبب نقدي لأدوار السيد كريم السياسية والثقافية في كردستان ـــ العراق وخارجها. لكنّ زياد ماجد، وحازم صاغيّة وغيرهما من مثقفي 14 آذار، يميّزون، كما يبدو، بين حرية تعبير... وحرية تعبير:
فإذا نَعَتَ شاوول الجنرال عون بالـ«عوْ»، فهذا نقدٌ مباحٌ، بل يقتضي التأييدَ والمناصرةَ وجمْعَ التواقيع لشجب دعوى عون؛ أما إذا أشرتُ أنا شخصياً إلى أمور تتعلّق بأحد مبرّري الاحتلال الأميركي في العراق اليوم، وسبق أن تناولتْها عشراتُ المقالات وبعضُ الكتب المنشورة، فذلك نقدٌ غيرُ مباح ويَستلزم «تحكيمَ القانون في ألسنة أفلتتْ من عقالها» على ما طالب صاغية في جريدة الحياة في 9/2/2008 (وكثّر الله خيرَه أنه لم يطالبْ برجمي أو قطع رأسي أو لساني أو يدي التي أكتب فيها في ساحة سعودية... ليبرالية).
إنّ «البذاءة» لا تكون كذلك إلا إذا نطق بها الخصومُ، كسماح إدريس أو أسعد أبو خليل أو كتّاب مجلة الآداب وجريدة الأخبار عامةً، بل هي حرية تعبير مقدّسة إنْ تفوّّه بها بول شاوول أو حازم صاغية أو فارس خشان أو ريمون جبارة وأمثالُهم.
إذاً، ثمة بذاءةٌ بنتُ ستّ، وبذاءةٌ بنتُ جارية. والستّ هي، طبعاً، تلك السيّدة المغناج المنعّمةُ المرفّهة الحرّة المنضوية في معسكر التقدّم وحبّ الحياة (وقطْع الرؤوس وتمويل المجاهدين الأفغان وفتح الإسلام)؛ أما الجارية فتلك المدعوسة المقموعة بالمحور السوري ـــ الإيراني ووكيله الحزبإلهي وأنصاره القومجيين والفوضويين من لبنان إلى كاليفورنيا!
دعونا من المزاح الثقيل يا سادة. أتراكم، أنتم المتباهين بالديموقراطية الغربية، تنْكرون أنّ كلّ جدال فكريّ ساخن في العالم يخلو من «بذاءات»؟ أتنْكرون أنّ أقساماً من صحافة بريطانيا (حيث تطبعون جريدة الحياة) كانت (وما زالت) تنْعت طوني بلير، رئيسَ وزراء بريطانيا السابق، بـ«كلب بوش» (بل بنوع معيّن مهضوم من الكلاب هو البودل)؟ أتنْكرون «بذاءات» المخرج العالمي مايكل مور في حقّ السفّاح القاتل بوش؟ ولماذا الذهاب بعيداً: أتنْكرون «بذاءاتكم»، أنتم بالذات، في تظاهرات ثورة الأرز ضدّ بعض السياسيين والحكّام وضدّ عائلاتهم أيضاً؟ وهل تصنّفون نعتَ زاهي وهبي للرئيس لحّود بـ«فخامة القاتل» حريةَ تعبيرٍ أمْ بذاءة؟ أقول رأيي الشخصي، وأعلم أنه قد لا يحظى بتأييد شعبي: ليست ثمة بذاءةٌ في نقد الشخصيات العامّة (الشخصية العامة النظيفة لا تأبه بأيّ بذاءة)، وعلى الصحافة أن تعطى أوسعَ هامش من الحرية وحقّ النقد (ومن ضِمْنه ما يسمّى زوراً بـ«النقد غير المباح»). فما يرتكبه الساسةُ وكتّابُهم وموظّفوهم وعسكرُهم في وطننا العربي من القتل والتعذيب والسرقة والتزوير والطائفية والمذهبية وخيانة الكلمة لا يستحقّ أحياناً إلا شيئاً من «البذاءة»... أو فلنسمّها مزيداً من التجرّؤ على السلطات أيّاً كانت، ومزيداً من الدفاع عن حرية الكاتب والمبدع في أن يقول ما يشاء وكيفما يشاء، وليكن القارئ والمواطنُ (ذكراً وأنثى) هو الحَكم، لا الرقابة أو المحكمة لأنّ هاتين هما، في البداية والنهاية، تجسيدٌ للسلطة السائدة. وبالمناسبة، فإنّ كاتب هذه السطور شجب دعوى عون ضدّ شاوول، رغم عدم استساغتي لنعوته «الكلبية»؛ وهذا ما أثار حفيظة بعض مثقفي «المعارضة» الملتبسة (وبينهم الصديق د. أدونيس العكرة، مسؤولُ الدراسات في التيّار الوطني الحرّ). لكنّ رأيي يبقى هو هو: الفكر (والنقد الذي يسميه البعضُ بذاءةً تارةً وحريةَ تعبيرٍ تارةً أخرى) لا يجابَهُ بالقتل، ولا بالضرب، ولا بالمحكمة، بل بالرأي والرأي وحده. وأيُّ سلاحٍ آخر غير الرأي إنما هو ترهيبٌ جديدٌ لحرية الفكر... حتى لو امتشقه ليبراليٌّ مزعوم، أو يساريٌّ ديموقراطي، أو عسكريٌّ متجدّد.
وهنا نأتي إلى الأمر الثاني، النابع مباشرة ممّا سبق ذكرُه، وهو أنّ ما يسمّى بمثقفي 14 آذار يمارسون إرهاباً فكرياً بحجة... رفض الإرهاب الفكري. فلقد بات كلُّ من ينتقد أحداً من كتّاب معسكر 14 آذار أو سياسيّيه مشاركاً في ما سوف (نعم، سوف!) يتعرّض له هؤلاء في المستقبل القريب أو البعيد. إنّ كتّاب هذا المعسكر (الذي يوهِم بسلاميّته وحضاريّته وليبراليته) يوحون أو يجهرون بأنّ أسعد أبو خليل وغيرَه مهّدوا الأرضَ لضرب عمر حرقوص؛ وهو منطقٌ تبنّاه للأسف الصديق إلياس خوري على قناة «أخبار المستقبل» (برنامج «الحدّ الفاصل»، 17 ــ 11 ــ 2008)، رغم أنّ إلياس هو من أبرز المدافعين عن حرية الرأي في الوطن العربي. كيف يكون وصفُ الرفيق أسعد (أو الأستاذ «المزعوم» على حدّ وصف خوري) لعمر حرقوص بـ«اليساري السابق» تحريضاً لعناصر الحزب القومي (وهم، على الأرجح، ليسوا يساريين ولا فوضويين ولا ينفّذون، من ثم، تعليمات «الأمين» أسعد أبو خليل) على ضرب حرقوص؟ لا ريْب أنّ منطقاً كهذا يذكّرنا بتلك الحملة الغريبة والسمجة التي قام بها تلفزيونُ المستقبل بعيْد اغتيال رفيق الحريري، حين راح يعْرض مقتطفات من تصريحات لسليمان فرنجية ونجاح واكيم ووئام وهّاب تنتقد الحريري، وكأنّ هؤلاء هم الذين حرّضوا على قتله حين تحدّثوا عن سياساته الاقتصادية الهوجاء وخياراته السياسية الواهمة!
نعم، إنها السياسة الثقافية «بمفعول رجعيّ» تلك التي تسيّر إعلامَ 14 آذار ومثقفيه، ترافقها وتعزّزها ذريعةٌ باهتةٌ لا تختلف كثيراً عن ذرائع الأنظمة: دقة المرحلة التي نمرّ بها. وها هو زياد ماجد يعيد معزوفة الأنظمة العربية التي تكمّم كلّ الأفواه بحجّة قتال العدو الصهيوني، ولكنْ من دون أن تقاتله. إنّ «دقة المرحلة» توازيها في منطق زياد «لحظاتُ الاحتقان السياسي والطائفي كالتي نعيش»، وهي لحظاتٌ تحوِّلُ البذاءةَ و«التقذيعَ» في رأيه إلى عنف مباشر. ولكنْ كيف نقنع جماعة 14 آذار بأنّ مَن قتل الحريري لم يكن يستمع إلى إحدى خطب واكيم في المجلس النيابي، وأنّ مَن ضرب عمر لم يفعلْ ذلك بسبب قراءة مقال أسعد؟ ترى هل يحمِّل مثقفو 14 آذار الكاتبَ المسرحيّ ريمون جبارة المسؤوليةَ إنْ رمى (لا سمح اللهُ) أحدُ معجبيه حجراً على الكاتب «الجعاري» الرفيق أسعد أبو خليل؟
وهل نحمّل فارس خشان المسؤولية لو اصطاد أحدُ المعجبين به (لا سمح اللهُ أيضاً) «الخنزيرَ البرّيَّ» الذي هو الوزير السابق وئام وهّاب؟
إنّ حرية التعبير ليست هي مَن قتل حسين مروّة ومهدي عامل وناجي العلي وفرج فودة وسمير قصير وجبران تويني، بل سياساتُ التكميم السلطوية في الدولة والمجتمع. فلا نحمّلن الكتّابَ مسؤولية ما خطّته أقلامُهم أو أطلقتْه حناجرُهم، من كلمات وأفكار وهتافات... وبذاءات!*
رئيس تحرير مجلة الآداب