محمد خواجة *بمعزل عن ضوضاء الأصوات المعترضة والمرحبة بزيارة العماد ميشال عون إلى سوريا، يمكن القول إنها حدث لبناني استثنائي، مثّل منعطفاً استراتيجياً، قد يساهم في تذويب رواسب الماضي، وتذليل عوامل الالتباس والشكوك المتبادلة، التي حكمت علاقة المسيحيين اللبنانيين بسوريا منذ تأسيس هذا الكيان، وارتدت سلباً على البلدين التوأمين. فجرأة عون في تخطي عقود من الخصومة، قابلتها دمشق بحفاوة لم يسبق أن حظيت بها شخصية لبنانية أو عربية، منذ زيارة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر إليها، في زمن الوحدة. فتعاملت القيادة السورية مع الضيف اللبناني كضيف «فوق العادة»، ما ساهم في زيادة منسوب الجدل الداخلي عن طبيعة الزيارة وأهدافها. فقد أدرج حلفاء الجنرال الزيارة ضمن السياق الطبيعي، وبما ينسجم مع خطابه المعلن، بأن خصومته مع سوريا تنتهي بانسحاب جيشها من لبنان، وهذا ما حصل بالفعل.
ولا ننسى التحولات الكبرى التي شهدها خطاب التيار العوني بعد عودة قائده من المنفى: بدءاً بانسحابه من فريق 14 آذار، وصولاً إلى إقرار وثيقة التفاهم مع حزب الله، وتوّجه بالموقف الوطني الريادي إبان عدوان تموز 2006، لذا وجد هؤلاء في الزيارة أمراً طبيعياً. في المقابل تعامل خصوم الجنرال معها كخطيئة تاريخية، فنشطوا لتحويلها إلى مادة تحريضية، للنيل من شخصه وتياره، محاولين استغلالها لزعزعة ركائزه الشعبية على أبواب الحصاد الانتخابي.
إذا قرأنا الزيارة قراءة مبسطة، على خلفية فقدان الود «المسيحي» تجاه سوريا، كما يفعل العديد من رموز 14 آذار، يمكن الاستنتاج أن شعبية الزعيم المسيحي الأقوى بعد الزيارة، آيلة إلى الضمور. ولكن إذا أمعنا النظر، فسنجد أن مآل الأمور ليس كما يشتهي هؤلاء. فالمشهد المسيحي المشرقي قد تبدل جذرياً؛ ففي فلسطين، تراجع الحضور المسيحي بفعل الاحتلال الإسرائيلي والهجرة إلى حد التلاشي. أما في مصر التي تضم بين مواطنيها العدد الأكبر من مسيحيي الشرق، فيعيش أقباطها حالة من عدم الاستقرار، ناجمة عن تنامي التيارات «الإسلامية» المتشددة، وتراجع دور الدولة الحاضنة والحامية. فيما شهدت بلاد الرافدين سقوط مقولة «حماية الغرب لمسيحيي الشرق»، حين تقاعست قوات الاحتلال الأميركية عن صونهم في الموصل وغيرها، إن لم تكن تواطأت ضدهم لتهجيرهم.
ضمن هذا المشهد المشوش، برزت سوريا كحاضنة ليس لمواطنيها المسيحيين فقط، بل للهاربين من أبناء ديانتهم من دون الجوار.
نعتقد أن عون قد قرأ «الخارطة» المسيحية في لبنان والمحيط جيداً، وتنبه إلى دور سوريا في تحصينها، لا سيما إذا سعى الزعماء المسيحيون إلى هدم جدار انعدام الثقة معها. فالجنرال البرتقالي يؤمن بأن بقاء المسيحيين ودورهم عنصر تفاعل رئيسياً، لا غنى عنه، مرتبط بتجذرهم في محيطهم، لا في تبني المراهنات الخاسرة، كما فعل وما زال بعض رموزهم من فريق 14 آذار، أو الاتكال على ضمانات خارجية، لم توفر لهم الحماية في الماضي.
والسؤال: هل زيارة العماد عون إلى دمشق نهاية مسار، أم بداية؟
* كاتب لبناني