فادية حطيطالعنف هو قسر الأمور على الحدوث بغير ما كانت مهيّأة له، أي أن تتدخل على مسار طبيعي وترغمه على الالتواء أو المداورة. العنف هو أن تكسر رتابة الانتظام وطمأنينة الكينونة. وبهذا المعنى فإن العنف يتغلغل في ثنايا الحياة وفي ثنايا التطور الاجتماعي برمّته. يولد الطفل ويتعرض لعنف التربية التي تريده أن يكون على شكل معيّن دونما اعتبار إذا كان هذا شكل هواه أو مخالفاً له. وهو يتعرض لتسلط العنف حين نرهن حبنا له بمدى خضوعه لنا.
ومن أشد أشكال العنف أن تضع فئة معينة (أكانت أمة أم طبقة أم طائفة أم منطقة أم جنساً) معاييرها وقيمها وتروح تنظر إلى الفئات الأخرى على ضوئها، فمن توافقت معها ارتفعت ومن خالفتها سقطت. والكلام هنا كثير كثير في زمن العولمة، وفي زمن الدول المتخبطة بمآسيها.
ويزيده في الشدة العنف الذي يمارسه شخص بالغ على شخص بالغ آخر. فيصنع أحدهما قالباً ويصوغ له نظاماً معرفياً وسلوكياً، ويقول للآخر «كن فيه، كن على شكله، كن على قياسه». وإن لم يتمكن ذلك الآخر من الانصباب في القالب عُدَ شاذاً أو متهوراً أو متمرداً. فيكون تكسير القالب عملاً عنيفاً ومتعباً لكل من طرفي العلاقة.
ومن شروط استتباب آثار العنف السيطرة على شؤون الجسد. بحيث تمنع حركته إما بفعل ضبطه داخلياً بالقوانين وبالقواعد وبالعيب وبالحرام، وإما بالإقفال عليه من الخارج، فإذا لم ينجح الضبط الداخلي وجد الجسد نفسه يتحرك في دائرة مغلقة يرتطم بجدرانها كلما عنّ له أن يتفلت. وبالطبع يتعرض الجنسان، صبياناً وبنات، منذ صغرهما لمثل هذا الضبط. وإن كان كل منهما لأهداف معينة. الصبيان حتى يستطيعوا حمل مسؤولية «تطور» العالم عملياً وفكرياً، والبنات من أجل استمرارية الحياة. والعنف يتأتى هنا من هذه القسمة تحديداً، من ينجب هو بعيد عن التفكير بمسار من أنجب، ومن يصوغ أفكار العالم بعيد عن الإحساس باحتياجات الناس الأساسية. وعلى هذا العنف تتأسّس مجتمعات بأكملها، وفي كل مستوياتها، السياسة والاقتصاد والتشريعات والاكاديميا.
اليوم، ولحسن الحظ، نلاحظ أن ضوابط كثيرة لم نعد قادرين على الإمساك بها. تربيتنا أقل صرامة، أبناؤنا أكثر انهماكاً بشؤونهم الخاصة، من قبيل شكلهم الخارجي ومستقبلهم الفردي، وبالتالي لم تعد حراسة جدران الضبط من التزاماتهم الهامة. وبناتنا يسافرن ويرسمن مسارهن ويختبرن الحياة بأنفسهن، وبتن أكثر قدرة على كسر تلك الجدران. لذا نسمع الصراخ يرتفع فاضحاً عنفاً كان مستوراً حتى الأمس القريب هو العنف الأسري. هناك بيوت وأسر يجري فيها عنف كبير، ولم يكن في الوارد محاسبة القائمين به باعتبار أنه يدخل في الشؤون الخاصة والداخلية. ولكن مع تطور أوضاع النساء ومقدرتهن على كشف مسارات حبسهن في أطر مادية ورمزية ومعنوية، فإن الصراخ يعلو لا للعنف ضد النساء. ولكن لكي تأخذ الصرخة فاعليتها نقول لا للعنف أيضاً ضد الأطفال وضد الرجال. لا للعنف على الإطلاق.