جويل بركاتتغيب الشمس مرة أخرى، ستظهر من جديد. هي تحب أن تعبث. تبدو قاسية هذه الدوامة.
أخاف أن أقطع أوردتي أو أن أتناول أقراصاً منوّمة وأواجه آلاماً حادة لفترة وأحيا الغثيان ولحظات التقيؤ قبل أن ألفظ أنفاسي، أو أن أشوّه رقبتي بازرقاق يسبّبه حبل غسيل وهو يعصرها. لكنّني لطالما حضّرت نفسي لذلك. خزّنت في جسدي ما يكفي ليجعل حبل غسيل يشدّ بكل قوّته ويستنزف آخر نبض، آخر دورة دماء في عروقي، دون رحمة...
قاذفة بظلّي الفارغ بعيداً، أتكوّر مكاني. أشعل سيجارة منطفئة، فينساب نفسي، أبيض كحبر ميت مدفئاً راحتي، أترقّب انطفاء جسد لطالما كان ميتاً.
تفوح رائحة نتنة من الغرفة البيضاء وترمقني تلك اللمبة الأنتيكية بشعاع ذابل. تبدو هذه الغرفة مرتبة ترتيباً دقيقاً كما لو أنّ راهبة دير اعتنت بها. يبدو كل شيء راكداً، لا ينبض إلا عقرب ساعة في الحائط لطالما أسقطت عليها لامبالاة بيضاء. راديو قديم لا يزال يثرثر، أوراق شاذّة تغطي المكتب، هذا الصندوق الخشبي الذي يتحمل تفاهاتي وتفاهات حقوقيين. هكذا يسمون من يحمل كتب القانون.
أنزل كالعادة السلالم الهزيلة، ألملم «صباح الخير» من أفواه منسيّة فوق جسد عشيقة ما، فيلقون تحية إجلال على كتفي: «يا هلا بالأستاذة». يعتقدون أنهم صفعوني بمديح كافٍ لأنهال عليهم بردّ يناسب غرورهم. لا يدرون أن لقب «ريسة» على الأقل هو ما قد يريح عجرفتي.
لكنّني كالعادة أتنهد، أصغي إلى الهواء يجادل «محمود درويش» في جداريته، وأحاول أن أحبّ الشمس للظلال التي ترسمها بخيالات خطواتي المتلعثمة على أطراف الأزقة. ألقي نظرة إلى بطاقتي الجامعية وأتفقد صورتي الشمسية. هذه أنا، طالبة حقوق سنة أولى. أتخبّط بين مفاهيم ونظريات يلقونها على مسامعي كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة، كل ثانية... وكم ثانية مضت على انتحاري الحديث؟
التلفون يرن ويرن. لا أقوى على رفع السمّاعة. تبدو بعيدة، كل شيء بعيد من فوق. يبدو أنّه يوم جديد، وهذا التلفون اللعين لم يتوقف بعد عن الرنين. إنّها الأم تحاول تعكير نوم ولدها الثقيل كالعادة وأتجاهله كالعادة إلى أن يتوقف.
ثم يعاود الرنين صداعاً في دماغي. إنّه العشيق الدائم الاشتياق لقبلات مثيرة جفّت أخيراً.
تتجوّل أصابعك في أروقة الغياب ويهيم طيف ضحكتك الخرساء مداعباً حيرتي، يتمايل دون عظام مسدسك وجسدك النحيل، الزجاجة تلمع في يدك السمراء. جرعة جرعة ألملم أشلاء وجود، أسترق من لمساتك جسداً لي لنتزاوج كالجرذان الخاملة، يعانقنا ضباب الموت المعطّر.
كل شيء يبدو صاخباً أكثر من العادة. المدفأة الكهربائية تلوح لي من بعيد. الشمس تتراقص أمامي مختالة مهتاجة، تتنقّل من نافذة إلى نافذة. أتعبثين معي أيتها الساقطة؟ حشدٌ من الظلال المسعورة تختبئ في زاوية خلف الستائر الباهتة المغبرّة.
أسمع تمتمات بعيدة على الكورنيش وهدير البحر يملأ أذني. ما عدت أحتمل، الدركي يزعق بصفارته الجديدة وينشر شتائمه مع دخان السيارات الكثيف. إنّه يصفر من جديد. القنبلة ستنفجر... أولم تنفجر بعد؟ الدخان يعبق في أنفي.
تجتاحني غيمة ماطرة تصبّ عليّ بكاءها المالح. إنني أعرق وأريد التبول. ماذا أنتظر؟ ربما بقع البول، بولي أنا، قذارتي على سراويلهم المكويّة البيضاء. سيكون مشهداً رائعاً...
جسدي يتفكك. ما عدت أقوى، فليستيقظ أحد، ألم تصل رائحة الموت إلى مضاجعكم بعد؟