معتصم حمادة *توقعنا مبكرين أن تخوض الأحزاب الإسرائيلية، معركتها الانتخابية في الساحة الفلسطينية جنباً إلى جنب، مع خوضها في الساحة الإسرائيلية، إذا جاز التعبير. فالوضعان الإسرائيلي والفلسطيني متداخلان على أكثر من صعيد، السياسي منه خصوصاً. وفي هذا السياق يمثّل الوضع الفلسطيني متنفّساً للسياسة الإسرائيلية، وكثيراً ـ بالمقابل ـ ما مثّل الوضع الإسرائيلي، هو الآخر، متنفساً للوضع الفلسطيني. وقدرة كل طرف على استغلال أوضاع الطرف الآخر، في خدمة سياسته المحلية والإقليمية والدولية، رهن بتماسك سياسته، وقدرته على التحرك، وطرح الخيارات، والبدائل، وبالتالي استعمال أوراق القوة بين يديه، بما يخدم مصالحه العليا، ويخدم في الوقت نفسه المصالح الحزبية، لهذا الطرف أو ذاك.
في الوقت الراهن، وفي ظل الانقسام الفلسطيني، وغياب الاستراتيجية الفلسطينية الواحدة، وفي ظل تعدد الاستراتيجيات الفلسطينية (ومعظمها قاصر وعاجز وقصير النفس) باتت قدرة الطرف الإسرائيلي على استغلال الساحة الفلسطينية، أقوى بكثير من قدرة الطرف الفلسطيني على استغلال الساحة الإسرائيلية. بل يمكن القول إن الوضع الفلسطيني، وبفعل الضعف الذي يستبد به، وحالة الفوضى التي تجتاحه، ووقوعه أسيراً لحالة الانقسام، بات عاجزاً عن الإفادة من الوضع الإسرائيلي. لذلك يمكن القول، إن النقاط التي فشل الجانب الفلسطيني في كسبها، تحتسب في باب الخسارة الفلسطينية ـ بالطبع ـ كما يجب أن تحتسب في باب الربح الإسرائيلي بالطبع أيضاً ـ وعلى الصعيد الاستراتيجي، يمكن القول إن دوام الحالة الفلسطينية على ما هي عليه من الانقسام والتمزق والفوضى السياسية، هو في الأساس مكسب إسرائيلي، يوفر له يومياً المزيد من النقاط لمصلحته.
ولقد مثّلت معركة الانتخابات التشريعية الإسرائيلية لاختيار كنيست جديد في 6 شباط القادم، فرصة ثمينة لمجمل الحالة الإسرائيلية مجتمعة، ولأحزابها، كلاً على حدة، لتخوض بعض جولات هذه المعركة على الأرض الفلسطينية، بحيث تتحول عناصر القضية الفلسطينية إلى أوراق لعب، يجري حرقها ورقة وراء ورقة على الطاولة الخضراء، حيث يتزاحم اللاعبون الإسرائيليون.
و«البطل» في هذا المجال، يؤدّي دوره في هذه المرحلة وزير الدفاع وزعيم حزب العمل إيهود باراك. فإذا كانت معركة كسب الرأي العام الإسرائيلي ستدور بين جنرالات، فإن الجنرال باراك يقف في مقدمة الصفوف. وإذا كانت المعركة ستدور بين سياسيين مخضرمين، فإن باراك، يقف هو أيضاً في مقدمة الصفوف. ولا يعيبه في ذلك أن شارون قد هزمه هزيمة شنعاء في مطلع عام 2001، بل إن المعركة القادمة، قد تمثّل لباراك فرصة للثأر ـ والانتقام، واستعادة ما خسره في مواجهة الجنرال الإسرائيلي العجوز، الذي أرغمه الشلل على مغادرة الحلبة لنائبه إيهود أولمرت، وبعده، لتسيبي ليفني.
وحديثنا عن «البطل» باراك، لا ينتمي إلى عالم المديح، بالطبع، بل ينتمي إلى عالم التنبيه والتحذير، لما يقوم به هذا الجنرال، من استغلال للدم الفلسطيني، ليحوله إلى أوراق اقتراع لمصلحة حزبه، في معركة العودة إلى الكنيست.
ففي الضفة الفلسطينية، وبذريعة أن إسرائيل رسمت خرائطها للحل الدائم مع الفلسطينيين، يواصل باراك تقربه من المستوطنين، ومن اليمين الإسرائيلي المتطرف، (وربما من حزب شاس الديني الشرقي أيضاً) من خلال توزيع أعطيات لبناء المزيد من الشقق السكنية في المستوطنات الإسرائيلية القائمة، وطرح مئات الشقق الجاهزة للبيع بتسهيلات مغرية، لاجتذاب الآلاف الجديدة من المستوطنين اليهود إلى الضفة. بكل ما يعنيه هذا من فرض وقائع جديدة على الأرض، لا بد أن تكون لها تداعياتها على العملية التفاوضية، (حتى إن بعض الفلسطينيين بات يرى في هذا التوسع الاستيطاني مقتلاً لإمكان قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع وبات يطالب ـ عبر الهروب إلى الأمام ـ بالتخلي عن البرنامج الوطني لمصلحة برنامج بديل هو برنامج الدولة الواحدة للفلسطينيين والإسرائيليين معاً).
في السياق نفسه، يواصل باراك، من موقعه وزيراً للدفاع (وطامعاً في الوصول إلى رئاسة الحكومة في الكنيست القادم) تشييد جدار الفصل والضم العنصري، وهو في كل الأحوال، الابن الشرعي لحزب العمل الإسرائيلي، رغم أن اسمه ارتبط بشكل أو بآخر، بالجنرال المشلول شارون. ولقد استشرى فعل الاستيطان، ووصل حداً، لم يعد معه بإمكان وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، ولا اللجنة الرباعية، الصمت، فاضطرت رايس، كما اضطرت الرباعية هي أيضاً، إلى توجيه انتقاد معلن لعمليات الاستيطان، والقول ـ مرة أخرى ـ إنها تعيق العملية التفاوضية (طبعاً دون أن يتحول هذا النقد إلى إرادة سياسية وفعل مؤثر يردع الجانب الإسرائيلي).
هذا في الضفة. أما في غزة، فإن باراك (وخلفه حكومة ليفني) يخوض معركته الانتخابية بالقتل والتجويع فينتهز أبسط الأسباب (وأحياناً يفتعلها) ليشن غاراته على أبناء القطاع. وذريعته أنه يرد بذلك على سقوط صواريخ في جوار سديروت وفي مناطق أخرى. منتهكاً بذلك تهدئة هشة صاغتها إسرائيل ـ أساساً ـ بشروطها هي، متجاهلة ما تمليه عليها من متطلبات علماً أن بالإمكان ـ لو كانت التهدئة «حقيقية» استحداث مكتب ارتباط إسرائيلي ـ مصري ـ فلسطيني، لمعالجة الخروق والانتهاكات، إن هي حصلت فعلاً من الجانب الفلسطيني كما تدعي إسرائيل.
وواضح تماماً أن باراك يستغل في هذا العمل البشع مسألتين:
الأولى، حالة الانقسام الفلسطيني، وغياب الاستراتيجية الفلسطينية الموحدة للرد. أي إنه يستغل حالة الإرباك التي تعيشها الحالة الفلسطينية (راجعوا ردود الفعل على الانتهاك الإسرائيلي للتهدئة للتأكد من صحة ذلك).
الثانية نجاح إسرائيل، بفعل أخطاء فلسطينية، وانحياز أميركي فاقع، في اتهام المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وبالتالي تبدو العمليات العدوانية الإسرائيلية ضد القطاع، كأنها جزء من الحرب الإسرائيلية ـ الأميركية ضد الإرهاب، لا اعتداءٌ على شعب محاصر جائع، منهك، منكوب بانقسام داخلي قاتل. وهكذا، يمضي باراك، وحكومة ليفني، في تحويل الدم الفلسطيني إلى أوراق اقتراع في صندوق تأليف الكنيست، وولادة حكومة جديدة، فمتى يمكن السياسة الفلسطينية أن تصون هذا الدم أولاً، وتحول دون استغلاله في المعارك الإسرائيلية الداخلية؟ ومتى يمكن السياسة الفلسطينية أن تستعيد قدرتها على اللعب ـ هي الأخرى ـ في الساحة الإسرائيلية ـ بعدما تحولت الساحة الفلسطينية إلى ملعب، يمارس فوقه الطرف الإسرائيلي أكثر الألاعيب قذارة؟
* عضو اللجنة المركزيّة
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين