يأخذ زوّار أي مبنىً انطباعاً إيجابياً أو سلبياً، تبعاً لما يرونه من تنظيم يعمّ البناية، أو فوضى تظهر في تجهيزها. لجنة البناية هي نوع من حكومة مصغرة تدير الشأن العام للبناية، وتحديداً الأقسام المشتركة. فهل تعكس لجان البنايات «ثقافة» اللبناني في العمل المشترك والتي هي للأسف غائبة؟ أم تعطي نموذجاً يجدر بمتعاطي الشأن العام الاحتذاء به؟
محمد محسن
هنا اجتماع في أحد أبنية بيروت. لا عتب على من يظنّ أن إشكالاً كبيراً هو الذي يسبب ارتفاع الأصوات. فالاجتماع للجنة البناية بكامل أعضائها، و«النقاش» الذي علا ضجيجه يهدف إلى تحسين وضع المبنى و«نفض» أقسامه المشتركة. لكن الأصوات العالية لم تثمر نتائج حتى الآن. الأسباب مختلفة، منها ما لا يرتبط حصراً بالطمع برئاسة اللجنة، أو المادة التي تمنع السكان من تحمّل أعباء لجنتهم. طبعاً، من الخطأ تعميم هذه الصورة على جميع لجان البنايات، إذ إن بعضها يعطي صورةً مشرقة، لكن الوقوف عند الحالة السائدة في أغلب الأبنية، يستدعي الاهتمام.
تشير حالة كثير من الأبنية المتزاحمة في شوارع المدن اللبنانية، إلى نتيجةٍ مغايرة للأهداف المنشودة من إنشاء اللجان كي لا نقول معاكسة. هكذا، تجد موتورات المياه موضوعة في الفسحات التي لا يجب وضعها فيها، أو أن ألوان ستائر الشرفات متنافرة، ما يوحي بغياب الحد الأدنى من التنسيق والالتزام بالقوانين البلدية. وفي الحقيقة، فإن أغلبية لجان البنايات في لبنان، تتحول إلى مقابر للمشاريع والخطط، إذ إن مقرراتها لا تخرج إلى حيّز الترجمة، بلغة الصيانة والتبليط وموتورات الكهرباء وإصلاح المصاعد. كذلك فإنّ الناطور وراتبه هما أيضاً من أولويات اللجان، إذ إنّ مسألة تجاوز وظيفته، لتصبح إحضار حاجيات نساء المبنى، تسبب إشكالاتٍ زوجية في بعض المباني. يشبه منصب رئيس لجنة البناء، رئيس البلدية، ولكن دون تواصل مفترض بين البلدية واللجنة أسوةً بما يجري في الدول المتقدّمة. هكذا يصف حمزة شعيثاني العائد من إسبانيا مثلاً لجنة البناية بأنّها الجمعية، التي يلزم نظامها الداخلي جميع الأعضاء التقيّد بقوانينها لتحقيق المصلحة العليا للسكّان. يرعى أعضاؤها تطبيق القانون وحقوق سكّان المبنى الذي ينظمون شؤونه من لمّ النفايات إلى تنظيم المرأب، إلى إصلاح الإنارة، وأمور مشابهة.
الواقع اللبناني أكثر تشويقاً، إذ يبدأ ابن رئيس إحدى اللجان الذي قصدناه في منطقة الغبيري، وقبل وصول الوالد، بالشكوى. يتحدّث عن «جيران لا يتعاونوا، فكل شي بهالبناية على بابا». يصل الوالد أيمن سبيتي، فتجد أنه من الطبيعي أن تستخدم معلومات الابن: «لماذا كل شيء على عاتق رئيس اللجنة؟ ألا يوجد نظام داخلي داخل لجنتكم؟». يطرق سبيتي رأسه قبل أن يجيب «بواقعية لبنانية» أن «الجيرة عندنا تفرض أن لا يكون هناك نظام صارم بينك وبين جيرانك»! بعد هذه الحكمة، لا ينفي سبيتي أن غياب النظام يسبب الكثير من المشاكل في عمل اللجنة وخصوصاً لرئيسها. ومن أبرز مشاكله «تسلّم الرئاسة بعد إشكالاتٍ داخل المبنى». ولكن ما هي تلك الإشكالات؟ يجيب سبيتي انطلاقاً من خبرته في عضوية ثلاث لجان قبل انتقاله إلى الغبيري، بأن أهم المشاكل تأتي من موضوع صندوق البناية المالي. هكذا، تصبح التهم بالاختلاس أسهل الطرق للاحتجاج على رئيس اللجنة، وعادة ما ينتهي الأمر بفضّها وانتخاب لجنة جديدة. أما المشكلة الأكبر فتقع على عاتق اللجنة المنتخبة، التي عليها أن تتحمّل مسؤولية التركة الثقيلة وأي تقصير ناتج عن أداء اللجنة السابقة.
تشبه حالة هذا المبنى، وضع الكثير من المباني. ولكن هناك مباني لا لجان فعلية فيها برغم وجود صندوق. ولكن، مع تغيب هؤلاء عن أداء مهماتهم، يبقى الصندوق، حجر الزاوية فيصبح التسليم لأمينه معرضاً للاهتزاز عند أي «شطفة درج» توقع إشكالاً بين الجيران على خلفية تسديد الأجرة. غير أنّ التقلّب في أوضاع لجان المباني، لا يلغي ضرورة وجودها. رغم أن أبو محمد خشيش استقال من لجنة البناية التي ترأّسها مدى عشرة أعوام، بعدما «أدّيت قسطي للعلى واسترحت من همّ اللجنة وتعبها»، يؤكد الرجل أنّه «رغم الصعوبات التي واجهتها، فأنا مقتنع بضرورة وجود اللجنة». ما هي الصعوبات؟ يبدأ أبو محمد بكلامٍ نظري، منطلقاً من خلاصةٍ وصل إليها، بعد خدمةٍ طويلة «مجتمعنا يكره النظام، ولذلك يتعثر عمل لجان البنايات». هل من حوادث تؤكد صحة ما تقوله؟ يأتي الجواب واثقاً، طبعاً، فتخلّف السكان في كثير من الأبنية عن دفع ما يتوجّب عليهم، وهو هنا 10 آلاف ليرة شهرياً، يعكس عدم استعدادهم للتنظيم ولو بكلفة ضئيلة. سكان الطبقة الأرضية في بناية أبو محمد في رأس النبع، لا يدفعون قسطهم الشهري «نحن لا نستفيد من خدمات المصعد» يتحجّج هؤلاء، متناسين أنهم يستفيدون من خدمات أخرى لا يستفيد منها غيرهم. أما سكان الطبقة العلوية فلا يبادرون إلى إصلاح المصعد، في حال غياب أبو محمد عن المبنى، حتى لو كانوا هم، كما هي الحال، المتضرر الأكبر من هذا التعطيل. والسبب؟ اتكالية هؤلاء، بدلاً من حسّ المبادرة الضروري في عمل جماعي. يبقى هذا الأمر معقولاً برأي أبو محمد، لكن ما ليس معقولاً ما اعتبره «وقاحة» بعض الجيران، الذين يتهرّبون من الدفع بحجة أن هذا المبلغ الزهيد غير متوفر معهم. وحين يعجز الرئيس عن تلبية مصاريف الصيانة يسألونه عن أموال الصندوق وأين تذهب! لا ينفي أبو محمد وجود أخبارٍ صحيحة عن رؤساء لجان بنايات اختلسوا الصناديق، لكنّه يؤكد في المقابل «أنّ من يضحّون بسمعتهم، مقابل صندوق بنايةٍ زهيد هم قلّة».
جيد، ما زال المختلسون في لجان البنايات قلّة، إذا ما سلّمنا بخبرة أبو محمد، لكن الاختلاس ليس وحده المشكلة. فثقافة التعاون والعمل الجماعي ما زالت غائبة. هنا مربط الفرس. النظام الداخلي أيضاً هو مربط فرس في قضية لجان المباني، التي لكثرة غياب «المرابط» تكاد تتحول إلى ما يشبه البرية الفلتانة. المؤسف أنّ صورة الترتيب والنظام الجذابين في كثير من البيوت اللبنانية، تغيب عن المباني التي تضمّها. سيارة اللبناني ولباسه لافتان دائماً، فمتى يحين دور البناية؟


تنظيم الملكية المشتركة