Strong>غسّان سعودينقسم طلّاب أنطوان مسرّة بين معجبين بأدائه الأكاديمي ومتذمّرين من برودته في الكلام. لكنّهم يجمعون على أن إنهاء الدراسة الجامعية من دون التعرّف إلى هذا الأستاذ خسارةٌ على المستوى الشخصي.
معظم من تجاوز الأربعين ويسكن في الأشرفيّة، يعرف أين يقع منزل آل مسرة. العائلة البيروتيّة المنتقلة من الأرثوذكسية إلى الكاثوليكيّة ـــــ خلافاً لحال معظم الأشرفيّين ـــــ يخالها بعضهم من أكبر عائلات الأشرفيّة، لكثرة ما تداول الناس أسماء أبنائها، وخصوصاً أنطوان الباحث والأكاديمي، وشقيقه روبير الذي حقق شهرة واسعة على ساحة الفن التشكيلي في باريس. ما زالت حتى اليوم اللوحة التي رسمها وهو في الخامسة عشرة تزيّن صالون آل مسرة، في البيت الذي يقع على يمين شارع عبد الوهاب الإنكليزي. هذا المنزل بناه الجد عام 1860، وتعاقبت عليه أجيال ستّة، آخرها أحفاد أنطوان.
خلف باب خشبي عتيق تجاوز عمره المئة، حجز أنطوان مسرّة لنفسه مكاناً هادئاً في قلب صخب العاصمة، محيطاً نفسه من جهة بمكتب متواضع خاص للدراسات، ومن الجهة الأخرى بالجامعة اليسوعيّة. في هذا المكان، يتكامل الديكور القديم مع حديث مسرّة عن ضرورة التمسّك بالتقاليد وبعض القيم القديمة.
يستهلّ كلامه بلوحة روبير: «إنها تعبِّر عن الأسى الذي غلّف طفولتنا أنا وإخوتي الخمسة». قبل عقود، كان الحيّ الموازي لشارع مونو ـــــ بحسب تسمية اليوم ـــــ يُعرف بحي مسرّة، لكن أعمامه اضطروا إلى الهجرة مطلع القرن الماضي هرباً من التجنيد الإجباري العثماني. وسرعان ما اضطر والده، الذي تمكّن بحكم صغر سنّه من البقاء في لبنان ليعتني بوالدته، إلى بيع الأراضي واحدةً تلو الأخرى، ليرسل لهم المال. لاحقاً، وقبل أن يُكمل الوالد عامه الثامن، توفيت والدته بحمّى التيفوئيد لعدم توافر الدواء. وبعد سبع سنوات، توفي والده أيضاً. وفور انتهاء الحرب، ذهب شقيقه روجيه ضحيّة ذبحة قلبيّة.
بغصّة تتوارى خلف عزّة النفس، يتحدث أنطوان عن اضطراره إلى العمل في سنته الجامعيّة الثانية، بعدما أنهى دراسته المدرسية في سيّدة الجمهور للآباء اليسوعيين. أما اختياره الحقوق، فأتى تأثّراً ربما بوالده الحقوقي، وتوجّهاته الشخصيّة واطّلاعه الواسع على الثقافة اللاتينيّة. وقد تفوّق في القانون الإداري ومواد الحق العام على حساب القانونين التجاري والمدني. يذكر ولعه بالدراسة في تلك الأيام، ونيله درجات «جيد» الواحدة تلو أخرى، واكتشافه... أنّ ما يتعلمه لا ينطبق على لبنان! «من يومها، بدأت أحاول أن أكون مجدّداً في القضايا الدستوريّة». وبموازاة الحقوق، درس أيضاً العلوم الاجتماعيّة. وكان يُدرّس مواد التاريخ واللغتين الفرنسيّة واللاتينيّة في «الجمهور» و«القلبين الأقدسين».
لكن لماذا لم تستهوه الأحزاب السياسية كحال معظم أبناء جيله؟ يربط مسرّة ذلك بنمط شخصيته: «أحب الالتزام بالجمعيّات والأحزاب، لكن لا أحبّذ التحزّب»، مؤكداً انتماءه إلى حزب الميثاق اللبناني. واليوم، برأيه، ثمة «أحزاب كيانيّة (نشأت مع الكيان) يجب تشجيع استمرارها رغم تناقضاتها. فهي في النهاية صاحبة أصول لبنانية وجذور وطنيّة، بينما تصعد اليوم أحزاب يكمن خطرها في أصولها وجذورها المجهولة».
وعن الحياة على خط التماس من دون تحزّب، يقول مسرّة: «أن تكون بيروتياً يعني ألا تعرف التمييز بين مسيحي ومسلم. كل ظاهرة الحرب اصطناعيّة في اعتقادي. وكلما نظرت إلى خط التماس، كنت أزداد قناعة بأنّ الحرب تحتاج إلى ثلاثة أو أربعة مقاتلين لتستمرّ. وبدل حمل البندقيّة، أسّستُ «المؤسسة اللبنانيّة للسلم الأهلي الدائم» التي بدأت تنظّم اجتماعات في قبرص، فمهّدت لاتفاق الطائف، وساعدت على بلورة الأفكار الدستورية ـــــ الإصلاحيّة».
وعن مسرّة الصحافي، يخبر أنّه أطلق خلال دراسته الجامعيّة مع مجموعة أصدقاء مجلة طالبية اسمها «الجامعي» وفّرت له بعض الشهرة، ثم سرعان ما بدأ في صحيفة Le Jour مع ميشال شيحا ومروان حمادة وجان شويري، حتى كادت تتفوق على زميلتها الفرنسية L>Orient ما جعل دمج الاثنين ضرورياً. وهو يرى أنّ التجربة الصحافية من أغنى التجارب، لأنها تعلّم التواصل مع الواقع. لكنّه لم يكمل في هذا الدرب بسبب التعب والإرهاق، وشعوره بأنّه سيبقى على تواصل مع العالم الصحافي من خلال التدريس في كلية الإعلام، ثم في إدارة دبلوم الدراسات العليا في الصحافة التابعة للجامعة اللبنانية. وعلى الصعيد الجامعي، يُبدي مسرّة استياءه من تحوّل المعرفة إلى مجرد شهادة، معلناً تمسّكه بالتعليم الجامعي على طريقة الفلاسفة القدماء، مذكّراً بأن الشباب اليوم يفتقدون نوعية نادرة من المعلّمين، مثل فؤاد افرام البستاني وبطرس ديب وجورج طعمة وغيرهم.
وحين نسأله عن شخصه، يجيب بثقة: «لست عصامياً. لا أحد عصامي، كلّ واحد مدين لشخص معيّن في حياته. أنا مدين لوالدي ولأساتذة استثنائيين حقاً. أولئك، وإن لم يتكلموا، فإنّك تستفيد من سلوكهم ونمط حياتهم». وبرأيه، ثمة عاملان للنجاح هما الأمانة والاستمراريّة. والمبدأ الأساس ليس: «قل كلمتك وامشِ»، بل: «قل كلمتك وتابع». ونكتشف من خلال الحديث أن الحقوقي البارز يخبّئ في حديقته السريّة هواية خاصة، لم يسمح له الوقت بالتفرّغ لها: «الموسيقى الكلاسيكيّة والكتابات الروحانيّة». وهنا يتذكّر أن أحد الآباء الذين علّموه كان يشرح النصوص الأدبيّة مستعيناً بأعمال موسيقيّة... من دون أن يسمّيها تربيةً متعددة الوسائط! في النهاية. هكذا توطدت علاقته ببيتهوفن وباخ، وكذلك بشوبرت الذي صار بمثابة الأب بالنسبة إلى مسرّة. وهنا أيضاً يبوح بأمنية: أن يتوافر له الوقت للكتابة عن شوبرت وعن شخصيّة المسيح.
يستعيد صوراً كثيرة، تبرق عيناه، لكنّه يُحجم عن ذكرها. يسرح دقائق كأنّه في حضرة الغياب، ثم يردّد مرتين أنّ وفاة والده صدمته. منذ ودّعه وهو يعيش مع فكرة أنّه يتجاوز الستّين. اليوم، هناك الأحفاد... تحافظ عيناه على البريق نفسه: «هذه نعمة لا نقدِّرها عادةً كما يجب. معهم، أنسى كل شيء، وأستفيد من طاقتهم كقوّة دفع تعزّز إيماني بالحياة».
لكن هناك سؤال يلاحقنا. أليس من المستغرب ألا يكون اليسار قد استهواه يوماً، في سنوات الشباب على الأقل؟ يبتسم، ويتراجع قليلاً في مقعده، يفكّر بضعَ ثواني ثم... يذكّر بطبعه المسالم. إيمانه بأنّ المواجهة لا توصل إلى مكان: «هذا ما أثبتته التجارب. الثورات التي ينادي بها اليسار لم تخلق تغييراً، بل ولّدت ديناميكيةً، تطلّبت لاحقاً مئات السنين لتُحدث تغييراً. أنا أؤمن بالتغيير الذي يدخل في مفاصل المجتمع، وخصوصاً في التربية. وهذا بالتحديد ما يحتاج إليه العرب».
من النادر أن يودّع أنطوان مسرّة ضيفه، ولا يزوّده بعض الكتب التي تحمل توقيعه، وهي تكاد تكون عصيّة على الإحصاء. ثم يصرّ على مرافقتنا حتى السيارة... غير آبه بالسلالم، ولا بالنسمة الباردة، ولا بالكسور الأربعة التي يحب الكلام عنها... وهي تستحق رواية أخرى.


5 تواريخ

1938
الولادة في بيروت
1974
كتابه الأوّل «البنية الاجتماعية للمجلس النيابي اللبناني، 1920 ـــــ 1974»
1982
دكتوراه دولة من جامعة العلوم الإنسانية في ستراسبورغ (فرنسا)، عن «تصنيف النظام السياسي اللبناني. بحث في النمط التوافقي واستمراريته»
1997
منسّق لبرنامج «مرصد الديمقراطية في لبنان» في مؤسسة جوزف ولور مغيزل بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي حتى 2003. وقبلها بعقد كامل، شارك في تأسيس «المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم» التي لا يزال منسّق الأبحاث فيها
2008
يُعدّ لكتاب جديد بعنوان «النظرية الحقوقية لأنظمة المشاركة ـــــ لبنان من منظور مقارن»