إسكندر منصور *لم تحظَ شخصيّة لبنانيّة أو عربيّة، باستثناء جمال عبد الناصر، بهذا الترحيب الرسمي والشعبي والروحي والإعلامي الذي رافق زيارة العماد ميشال عون إلى سوريا. فالعماد عون، عدا أنه أهم شخصيّة وطنية مسيحيّة لبنانيّة على الصعيد الرسمي والشعبي، فهو رجل المواقف الصلبة بصحتها وخطئها، باعتدالها وتطرفها، في زمن أصبح فيه أصحاب المواقف عملة نادرة. فاستقبلته سوريا على أنه «العماد الصادق» و«الخصم الشريف» و«فخر المسيحيّة المشرقيّة» و«صديق المقاومة» وصاحب «عمليّة القلب المفتوح» و«بطريرك المشرق»؛ قرعت له الأجراس وتليت له الصلوات ولاقاه الشيوخ والأولاد حاملين أغصان الزيتون ـــ رمز السلام والمحبة والديمومة ـــ والشموع المضاءة. بزيارة العماد عون استعادت سوريا تاريخها وتألقت من جديد سريانيتها / أراميتها كنجمة ساطعة على جبهة العروبة الحضاريّة المخطوفة، فحرّرتها من فتاوى كثيرة كادت أن تنجح في طمسها واحتضارها.
فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لعب المسيحيّون العرب دوراً بارزاً في حياة اللغة والثقافة العربيتين؛ أو في ما يُسمى بالعروبة الحضاريّة المتحررة من النصوص الدينيّة وعبئها، والناهضة على الثقافة واللغة والتاريخ. اختاروا الانخراط على الانعزال، والمبادرة على الانتظار، والاحتكاك على التقوقع؛ فكان أثرهم بارزاً في الأدب واللغة والصحافة؛ كما كان أثرهم بارزاً أيضاً في تأسيس التيارات سياسيّة ذات التوجه الحداثي الليبرالي والقومي العلماني واليساري وقيادتها. لكن تلك المسيرة والتراث والرؤية المشرقيّة المتنورة والمنفتحة ما لبثت أن تعثرّت نتيجة عوامل كثيرة تختصر تاريخ المشرق.
فخلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة صادر حزب الكتائب القرار المسيحي، أو الأصحّ كان انفجار الحرب الأهليّة المتعددة الأسباب نتيجة مصادرة حزب الكتائب القرار المسيحي وانحسار دور العقلاء؛ ومن ثم بدأ صعود القوات اللبنانيّة أولاً على دماء المسيحيين من إهدن إلى الصفرا ومن الجبل إلى صيدا، وثانياً على جسد الدولة الذي نهشته إلى جانب القوات كل القوى التي شاركت بالحرب الأهليّة وأجّجتها، من فلسطينيّة ولبنانيّة وسوريّة، وبالطبع دون إغفال الدور الإسرائيلي عبر حلفائها اللبنانيين في مرحلته الأولى وعبر الغزو المباشر لاحقاً. فتراجع وتقهقر مفهوم الوطن الواحد، وطن الصيغة، فغدت حدوده في ذهن قسم من أبنائه حدود الطائفة التي اختزلت الوطن والمواطن وغادرت تراث النهضويين المسيحيين.
لكن سوسة الوطن ـــ الطائفة ما لبثت أن امتدت لتغطي الوطن كله، وبدأت كل طائفة في رسم خارطة وطنها أو قل دويلتها وحدودها وعلاقاتها الإقليميّة والدوليّة ومهماتها الجديدة على حساب دولة الدولة. فكان للمقاومة طائفتها التي نجحت في مهماتها، و«للإعمار» طائفته، بالإضافة إلى طائفة «ما بينهما». واليوم ونحن على أبواب الانتخابات النيابيّة بدأ خطاب التجييش والتعبئة يشق طريقه. فكان خطاب الرئيس الأسبق أمين الجميل خطوة بارزة في هذا الطريق، يحاول أن يعيدنا ثلاثين سنة وأكثر إلى الوراء من أجل حفنة من الأصوات. فأعاد إلى مسامعنا تعابير «التعدديّة الثقافيّة» و«الفدراليّة»، تعابير سادت وانتشرت في زمن ما قبل دحر إسرائيل، أولاً على يد جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة وثانياً وفي مراحلها الأخيرة على يد حزب الله ومن ثم في حرب تموز 2006 على لبنان.
لهذا فمسؤوليّة العماد عون كبيرة وكبيرة جداً، خاصة بعد زيارته لسوريا، في ضبط إيقاع الخطاب الانتخابي المقبل. فالخطاب العوني التجييشي خلال انتخابات 2005، تارة باسم «استعادة حقوق المسيحيين المسلوبة» وطوراً برفع وتيرة التوطين من منطلق إثارة شعور الخوف عند المسيحيين، يتناقض مع رسالة التهدئة والانفتاح التي حملتها زيارته إلى سوريا والمهمات والتوقعات التي ينتظرها منه أولاً المسيحيون اللبنانيون والسوريون معاً، وثانياً الشعبان اللبناني والسوري بأسرهما، كون مواقف العماد الوطنيّة الأخيرة في حرب تموز تعدّت إيجابياتها الطائفة المسيحيّة لتطال الوطن بأسره.
إذا كان اتفاق الطائف قد أنهى الحرب الأهليّة اللبنانيّة بهزيمة العماد عون ومغادرته لبنان إلى عالم المنفى القسري ودخول لبنان نظام الوصاية السوريّة، فقد جاءت زيارته إلى سوريا لا لفتح صفحة جديدة فقط كما ذكر، بل ليؤكد أنه غير مهزوم وأن إعادة رفضه للطائف ومن قلب سوريا بالذات تأكيد على أن الجنرال لا يزال يرفض النتائج السياسيّة لمعركة 13 تشرين الأول سنة 1990. إنه يحضّر لجولة جديدة ولكن هذه المرة مع تفهم من حلفائه اللبنانيين وتفاهم سوري. إنه الجنرال المغامر.
فمنظار النقد العوني السابق للطائف، القائم على أن طائفة صادرت حقوق طائفة أخرى، والذي تجدد خلال زيارته لسوريا هو منظار خاطئ، وخاصة إذا تحول إلى شعار الحملة الانتخابيّة المقبلة. فتعزيز صلاحيات رئيس الجمهوريّة ضرورة لتستقيم آلية الحكم، ويجب ألا ينظر إليها بمنظار «إعادة حقوق مسلوبة».
هذا لا يعني أن المحافظة على الطائف كما هو يجب أن تكون حلم اللبنانيين الأقصى؛ بل العكس هو الصحيح، ولكن المقاربة يجب أن تكون من منظار وطني ديموقراطي وعلماني؛ وكل دعوة ونزعة لتغيير الطائف من منظار طائفي هي دعوة تتعارض مع مفهوم السلم الأهلي، كما أنها تثير «الخوف» عند الطائفة المقصودة.
إن العودة إلى الخطاب العلماني الذي حمل لواءه التيار الوطني الحر في بدايته شعاراً لحملته الانتخابيّة المقبلة والمطالبة كما أقرّ الطائف بتأليف الهيئة العليا لإلغاء الطائفيّة السياسيّة سيلاقي ارتياحاً عاماً عند الكثيرين داخل التيار الوطني وخارجه من أهل العلمنة واليسار، كما أنها أفضل خارطة طريق للعبور من مطبّات الطائف وأفخاخه إلى وطن واحد ومستقر لا ثغرات فيه، من خلالها تتسلل القوى القريبة والإقليميّة والدوليّة لتحقيق مآربها على حساب الوطن وأهله واستقراره، لا بل على حساب حقّه في الحياة.
فليس هناك للطوائف حقوق مسلوبة، وهي التي سلبت حقوق المواطن الحر المستقل ونزعت عنه صفة المواطن وجعلت نفسها بديلاً عن علاقته المباشرة بالدولة وعلى حسابها.
ما قاله العماد في محاضرته في جامعة دمشق عن حق العودة للفلسطينيّين إلى فلسطين هو الإطار الصحيح للتعاطي مع هذا الموضوع؛ وإن كان من مواقف على المرشحين للانتخابات المقبلة تبنيها في هذه المسألة فيجب أن تكون أولاً: في مغادرة التعاطي السابق مع المخيمات الفلسطينيّة كـ«بؤر أمنيّة» تستخدم للتجييش والتخويف. وثانياً: المطالبة بالانتقال الفوري لتأمين حق العمل والدراسة والتنقل والعمل السياسي للفلسطينيين في لبنان حتى يتحقق حق العودة إلى ديارهم.
لتكن الانتخابات المقبلة كما قال بيار رفول «بين نهج يسوّق للتوطين ونهج يطالب بعودة الفلسطينيين إلى ديارهم، بين نهج يسعى لترسيخ الوحدة ونهج يعمل للفدراليّة والتقسيم، بين نهج تصادمي ونهج تفاهمي».
وأخيراً: قبل أن تستلم إدارة باراك أوباما السلطة، على القوى اللبنانيّة والفلسطينيّة وسوريا أن تحضّر ملفاتها. فزيارة عون إلى سوريا كانت حاجة لبنانيّة وسوريّة معاً، وخطوة مهمة على طريق التحضير للتعاطي مع الإدارة الأميركيّة الجديدة.
يبقى الإسراع، بجديّة، في نقاش الاسترانيجيّة الدفاعيّة وإقرارها، وإن أمكن قبل الانتخابات النيابيّة، منعاً للتدخلات الخارجيّة المقبلة التي ما خدمت قط المصلحة اللبنانيّة العليا. وما أصوات التصعيد الداخلي الأخير إلا إشارة للآتي على الطريق.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركية