ماري القصيفيحين دعا أنسي الحاج إلى الحريّة الجنسيّة، فهم الناس كلامه خطأً، وانطلقت ثورة هي أقرب إلى العهر منها إلى المصالحة مع الجسد، فتحرّرت النساء من ملابسهنّ وتخلّص الرجال من رجولتهم، وبدأ عصر الأجساد العارية في أماكن، والمحجّبة في أماكن أخرى. أمّا الحريّة الحقيقيّة، أكانت في الفكر أم السياسة أم الجنس أم الدين، فلا تزال تبحث عن مكان لها في عالم اعتاد استيراد الأفكار وترجمة الشعر ونسخ الروايات وتقزيم الله.
منذ أن كان في صحيفة «النهار»، وأنسي الحاج يدعو إلى الكتابة عن الفقر، وحين كنت لا أزال أعمل في المجال التربويّ، استفدت من هذه الكتابات واستعنت بما اختاره من أقوال عن الفقر، وصنعت منها لوحة جداريّة كبيرة مع صور عن الفقراء في لبنان والعالم، وعلقتها على أحد جدران المدرسة كي يراها التلاميذ. فما كان من المرشد الروحيّ في تلك المدرسة الكاثوليكيّة وهو كاهن لم يسمع باسم أنسي الحاج ولا بسواه من الشعراء والأدباء إلا أن طلب نزعها لأنّها تؤلم النفوس البريئة وتسرق منها فرح الأعياد.
ما أخشاه من دعوة أنسي الحاج إلى كتابة روايات عن الفقر تحوّل الأمر إلى عكس ما أراده، فتبدأ المتاجرة بآلام الناس وأوجاعهم وأمراضهم وفقرهم، ويتحوّل الفقراء إلى سلعة في مزاد علنيّ كبير يتنافس الشعراء والأدباء في تسجيل أعلى نسبة ربح فيه. أليس هذا ما حصل مع موضة الحريّة الجنسيّة، فصارت الروايات مشرحة ملأى بالأعضاء الجنسيّة بلا جمال أو حياة؟
أوليس هذا ما حصل مع موضة الأغاني الوطنيّة حين كتب الشعراء للبنان وعن لبنان كميات من القصائد والأغنيات يفوق عددها عدد سكّان لبنان؟ أوليس هذا ما حصل للجنوب المسكين حين انهالت عليه الأناشيد والتحيّات والدواوين والروايات حتّى فاق عددها عدد القنابل التي رمتها إسرائيل على ترابه؟
وفلسطين، ألم يحوّلها بعض تجّار الكلمة إلى موضة على الجميع ارتداء كوفيّتها وإلا كانوا أعداء العروبة والقضيّة؟ الحرب اللبنانيّة نفسها لم تستفزّ الشعراء والأدباء بعد لكي يكتبوا عنها من الناحية الإنسانيّة العميقة بدل تلك اليوميّات والمذكّرات والبيانات الحزبيّة، وكلّها يشير إلى مواقف متّخذة سلفاً من ذلك الحزب أو تلك الطائفة، ولا تقبل النقاش أو النقد أو وجهة النظر الأخرى.
منذ فترة وأنا أحاول «إهداء» مجموعة نصوص تصلح للغناء وتدور حول مواضيع الفقر والأمراض والوحدة والطفولة المشرّدة والهجرة، ولم تجد هذه النصوص أذناً صاغية، ولو كانت تقدمة منّي ولا تبغي ربحاً سوى الانتقال بالأغنية إلى مكان آخر غير الذي صارت إليه اليوم.
من سيشتري كتاباً عن الفقراء يا أستاذ أنسي؟ الأغنياء؟ بالطبع لا. الفقراء؟
سيفضّلون عليه الرغيف. الفقر لا يجذب الأموال أو الشهرة أو الترجمة إلى لغات
الأرض، السياسة قد تفعل والجنس بالتأكيد يفعل، والاقتتال الطائفيّ موضوع مربح، أمّا الفقر فلا يجلب إلاّ الفقر كما المال يجرّ المال.
في مقالة لي في صحيفة «البلاد» البحرينيّة، تحدّثت عن الفقر في بلاد لا أعرف إن كان فيها متسوّلون أو فقراء، وقلت تحت عنوان «من ليس له يطلب منه» ما معناه أنّ وسائل الإعلام تطلب من الفقراء احترام البيئة وعدم الهدر في المياه والطاقة الكهربائيّة. ولكن الفقراء لا يقرأون الصحف، والكتابة عن الفقر للمرتاحين إلى أوضاعهم وفي أوضاعهم، قد تجعل صاحب المؤسسة يقول لك: توقّف عن هذا «النقّ»، الجمهور مش عايز كده، وإن لم تصدّقني تذكّر كيف ماتت ليلى كرم.