حسام تمام *عادت المساجلات بين «الدكتور فضل» (سيد إمام عبد العزيز) مفتي تنظيم الجهاد المصري، والدكتور أيمن الظواهري، بعدما أصدر «فضل» قبل أيام كتابه الجديد في سلسلة المراجعات الجهادية، الذي تنشره في حلقات صحيفتا «المصري اليوم» و«الشرق الأوسط». كان «فضل» قد أصدر قبل عامين «وثيقة ترشيد العمل الجهادي» التي عُدّت من أهم ما صدر في مراجعات الجماعات الجهادية في مصر، بعد مراجعات الجماعة الإسلامية التي صدرت في كتب عدة. ثم رد عليه الظواهري بكتاب «التبرئة: رسالة في تبرئة أهل القلم والسيف من منقصة الخور والضعف»، الذي تضمن نقداً كلياً لوثيقة المراجعات، مرة لأنها صدرت من السجن بما يشكك في حرية صاحبها، ومرة أخرى لأن رسالتها هي تعطيل الجهاد ـــ بحسب الظواهري ـــ لا ترشيده. ثم عاد الدكتور فضل في كتابه الأخير «التعرية لكتاب التبرئة» إلى شن أعنف حملة ضد الظواهري شخصاً ومشروعاً.
أتصور أنه ليس مهماً التوقف كثيراً عند طبيعة هذه المساجلات ومحتواها، وخاصة أن الكتاب الأخير (التعرية) غلب عليه الهجاء والسب، وتملكت صاحبه نزعة ثأر شخصية من الظواهري، فغطت على أي نقاش مع الأطروحة الجهادية ومشروعها الأهم، القاعدة، بقدر ما تكمن الأهمية في معرفة إمكان تأثير هذه المراجعات أو التعويل عليها في قضية وقف العنف المؤسس على مرجعيات إسلامية. إذ إنني أميل إلى القول إنها رغم أهميتها وما تستحقه من تثمين، قد لا تتجاوز الدلالة الرمزية التي تشير إلى إمكان تحول تيار أو تنظيم عنيف إلى تيار نابذ للعنف يلتزم السلمية، إضافة إلى الدلالة على قدرة الدولة ـــ وهي الأجهزة الأمنية في حالتنا ـــ على إدارة هذا التحول وضبطه والتحكم فيه.
إن تحليلاً شاملاً للحالة الإسلامية في مصر في ربع القرن الأخير، بما فيها التنظيمات الكبيرة التي تبنت العمل المسلح، يدفع إلى الذهاب إلى القول بأن مراجعات التنظيمين الإسلاميين الأهم في تاريخ المواجهة مع النظام المصري لا يمثل أهمية كبيرة في استشراف مستقبل العنف «الإسلامي» في مصر. فالواقع يقول إننا، في حالة الجماعة ثم الجهاد، أمام تنظيمات تم تجاوزها واقعيًّا ولم يَعُد لها من التنظيم إلا الاسم وماضٍ من العمل «الجهادي» نجح زمناً في إزعاج النظام وإرباكه، دون أن يعصف باستقراره أو يغير من وجهته الأساسية.
فمعظم أعضاء هذين التنظيمين قد جاوزوا الخمسين من العمر، أي يندر بينهم العناصر الشابة، كما أن معظم هؤلاء الأعضاء، وخاصة القيادات منهم، ممن بقوا في السجون أكثر من عشرين عاماً أو يزيد، انقطعوا فيها عن العالم وضعفت صلاتهم أو انعدمت تقريباً بالأجيال الجديدة التي يمكن أن يعوّل عليها في ممارسة العنف أو خوض معارك جهادية ضد النظام.
إن التأثير الذي لقادة «الجماعة» و«الجهاد» في القواعد الإسلامية صاحبة القابلية للإيمان بأفكار العمل المسلح لا يجاوز الرمزية التاريخية التي قد تكون لها أهميتها في الترويج لبعض القناعات والأفكار، لكنها لا تمثل وزناً معتبراً على مستوى التعبئة الأيديولوجية، فضلاً عن المستوى الميداني.
إن 20 عاماً كاملة من المواجهات والملاحقات الأمنية، والمحاكمات القاسية، والتضييق التام والمستمر على مؤسسات هذين التنظيمين وقواعدهما قد أتى ثماره، وقضى تقريباً على البنى الاجتماعية التي كانت تمثل رافداً يتغذى منه التنظيمان.
لقد أصبحنا إزاء تنظيمات أنهكت واستنزفت، ولم يَعُد التوقف عن العنف المنظم لديها إلا تحصيل حاصل لنهاية قدرتها عليه. وبالتالي لم يَعُد وقف العنف رهناً بقرار أو مراجعة أو مبادرة، دون التشكيك في صدق هذا كله، بقدر ما هو إفراز لواقع جديد: لم تعد قادرة على ممارسة العنف.
الأهم مما سبق في تحليل تأثير هذه التنظيمات على العنف هو ما نرصده من تراجع دور التنظيم أو المؤسسة في الفعل الديني عامة في السنوات العشر الأخيرة في مصر. فالحاصل أننا نلحظ أن الحالة الإسلامية مع استمرار فاعليتها ونشاطها، تغيرت تماماً في ما يشبه الانقلاب، حيث لم يَعُد الفاعل الأول فيها التنظيمات أو الجماعات (المؤسسة)، بل تحولت باتجاه دور أقوى وتنام للفردانية في التدين.
لقد شهد العقد الأخير تنامي ظواهر ما نسميه بالدعاة الجدد والدعاة المستقلين والمفكرين الإسلاميين المستقلين، وتصاعد نفوذهم وتأثيرهم في الحالة الإسلامية، أكثر من تأثير الحركات والتنظيمات الإسلامية التي كانت تحتكر المشهد الإسلامي قبل هذا الوقت.
قبل عقدين، لم يكن بإمكان الشاب المتدين أو الساعي للتدين أن يلج إلى التدين إلا بعد أن يمر عبر بوابة التنظيم الإسلامي، مهما كان توجه هذا التنظيم وأفكاره، وكان يندر أن يلتزم شاب (وحده) ومن دون جماعة أو تنظيم إسلامي، سواء كان سلميّاً (كالإخوان المسلمين) أو جهاديّاً (كالجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد)، بل كان الانتماء لتنظيم والعمل فيه أحد أهم أركان العمل الإسلامي ومن أبجدياته. لقد كانت «التنظيمية» هي أهم سمات العلاقة بين الفاعلين الإسلاميين. لذا فقد ظلت الجماعات والتنظيمات الإسلامية تتسيد المشهد الديني وتتحكم في مساره. لكن سطوة التنظيم أو المؤسسة الدينية تراجعت منذ منتصف التسعينيات، وذلك لأسباب كثيرة ومختلفة، منها العنيف ومنها السلمي بين الجماعات الإسلامية والنظام، وإكمال الدولة هيمنتها وإحكام قبضتها على المؤسسة الدينية التي صارت تابعة لها مباشرة وبشكل ومهين!
تغير المشهد الديني في مصر إذاً لجهة تراجع دور المؤسسات الدينية، سواء الرسمية مثل الأزهر والإفتاء والأوقاف، أو غير الرسمية مثل الجماعات والتنظيمات الإسلامية على اختلافها. وبرزت أنماط التدين الفردي الذي لا يتطلب الارتباط بعلاقة مؤسسية من أجل الدخول في تجربة الالتزام الديني، بل يقوم على التعامل المباشر مع ما يمكن تسميته «سوق العرض الديني» الذي أصبح متعدداً ومتاحاً، دون فرض نموذج بعينه أو إعطائه صفة إلزامية.
فعلى عكس ملتزم حقبة السبعينيات والثمانينيات، يمكن للملتزم الجديد أن يدخل في تجربة التزام ديني (سلمي أو جهادي) ويعيشها كاملة دون ارتباط مباشر بواحد من التنظيمات الإسلامية التاريخية أو الفاعلة في مصر. بل صار وارداً ألا يحتاج إليها أو يرتبط بها يوماً ما في حياته. وهو لن يفتقد الزاد اللازم لتأطيره (سلميّاً أو جهاديّاً) في ظل التدفق الهائل للعرض الديني من المعلومات والأفكار الذي تتيحه له صورة المعلومات وتطور وسائل الاتصال (الفضائيات والإنترنت)، وتنوعها بشكل مذهل يسمح بالحصول على الأفكار التي تناسبه وتقترب منه.
علاوة على ذلك، تراجعت «التنظيمية» إلى حد كبير حتى داخل الجماعات والتنظيمات التي صارت أكثر ميلاً للتخفيف من قبضتها التنظيمية وللانفتاح أكثر على غيرها، كما تحولت بعض هذه الجماعات إلى أيديولوجيا مفتوحة تتجاوز الإطار التنظيمي المغلق في بعض الأحيان (كما في نموذج القاعدة)... لقد دخلنا مرحلة ما يسمى بالعلاقة الشبكية بين الفاعلين الإسلاميين، التي تتراجع فيها سطوة التنظيمات على الأفراد.
إن فهم ما جرى من تغير في الحالة الدينية في مصر يوضح أن ثمة مبالغة في النظر إلى نتائج مراجعات «الجماعة» و«الجهاد»، أو التوقع أن من شأنها أن تسجل نهاية للعنف في مصر. فهذه الجماعات ليس لها وجود حقيقي في الشارع، كما ليس لها سيطرة حقيقية على من يقتنع من الفاعلين الإسلاميين بأيديولوجيا العمل المسلح.
العنف رهن بوضعية إحساس عميق بالأزمة يعانيه الفاعل الإسلامي، يتمثل داخليّاً في حالة الانسداد السياسي المزمن في البلاد بلا أفق لانفراجة قريبة، وخارجيّاً في حملة أميركية استعمارية جديدة على المنطقة وعلى العالم الإسلامي. وهي أوضاع لم تتغير بعد وليس في نهاية نفقها ضوء. ومن ثم يبقى العنف وارداً. لكنه سيكون حالة غير تنظيمية، أقرب إلى العنف الفردي أو المحصور في خلايا صغيرة تجمعها علاقات اجتماعية أو مهنية. وهو ما رأيناه في معظم العمليات الأخيرة في مصر (تفجيرات سيناء والأزهر...) التي قامت بها مجموعات صغيرة لا صلة تنظيمية مؤكدة لها بالتنظيمات الإسلامية المعروفة والكبيرة في مصر، لكنها أقرب أيديولوجيّاً إلى فكر تنظيم القاعدة.
ويجوز القول إن الجيل القادم من حملة السلاح المحتملين لن يتأثر كثيراً بهذه المراجعات على أهميتها، وسيبقى متشككاً فيها رافضاً لها، وخاصة أنها جرت في سياق يعزز لديه احتمال الإكراه أو التنازل. وسيظل أبناء هذا الجيل أقرب إلى الدكتور فضل (الاسم الحركي لمنظر تنظيم الجهاد ورفيق أيمن الظواهري قبل الاعتقال) منه إلى سيد إمام عبد العزيز (بعدما عاد إلى اسمه الحقيقي وقاد المراجعات)، وسيحتفظ هؤلاء بكتاب «العمدة في إعداد العدة» دستوراً للعمل الجهادي، في طبعته أو طبعاته القديمة قبل زمن المراجعات!
* باحث في شؤون الحركات الإسلامية